عندما كنتُ صغيراً، كان أبي يحرص على اصطحابي وأخي بدر معه كلما سافر إلى مدينة عربية ليُشارك في مؤتمر ما. وأذكر أنني عندما زرتُ القاهرة لأول مرة مع العائلة في العام 1990 شعرتُ بأنني في عالم مختلف. كل شيء كان كبيراً، وكثيراً، ومتنوعاً. كان الناس والسيارات والضوضاء والألعاب والأشياء تتزايد بطريقة عشوائية لتُحدث زخماً في عقلي الصغير. كانت تلك أول صدمة حضارية في حياتي، وشعرتُ بأنني أريد أن أعيش في عالم ممتلئ كذاك.
ثم مرّت عشرون عاماً، وزرتُ القاهرة مرة أخرى، إلا أنني لم أشعر بشيء من ذلك الزخم. لم تعد القاهرة كما هي، حتى عندما زرتُ الأهرام لم يُرهبني الوقوف عند سفحها. وعندما عدتُ إلى الفندق شعرتُ بأن أحداً اغتال روح تلك المدينة العظيمة.
وكذلك باقي المدن العربية، يشعر الزائر لها اليوم أنه لايزال في ثمانينات القرن الماضي. كانت الثمانينات جميلة لكن في وقتها فقط، فالشوارع كانت جديدة، والجسور المتواضعة حينها كانت تبدو لنا عظيمة، وسيارات الأجرة الصغيرة التي لم تكن بها عدّادات لحساب سعر الرحلة، كانت كافية لتلبية احتياجات مدن محلية بدأت للتو بالانفتاح على الدنيا. إلا أن العالم تغيّر، وقفز، بسبب تقدم علوم الهندسة والإدارة والتكنولوجيا والطب، قفزات نوعية، ولم يعد في وسع الإنسان اللحاق بركبه إلا إذا كان في بحث دائم، وتجديد مستمر.
وقبل أيام حَكَت لي فتاة خليجية تدرس في دبي أنها عندما دخلت لتناول الغداء في مدينة دبي للإعلام شعرت بأنها تنتمي إلى العالم أجمع، وقالت «شعرتُ بأنني مواطنة عالمية» حيث لم تعد فكرة الانتماءات القُطْرية تثير اهتمامها. وكلما زارتها والدتها تقول لها إن دبي تشعرها بكيانها الإنساني، ولأن كل شيء يمشي وفق نظام، ولأن الخدمات التي تقدمها الحكومة تتجدد باستمرار لتتلاءم مع المعايير العالمية، فإن الزائر أو المقيم فيها يشعر بأنه شخص محترم لالتزامه بضوابط الثقافة الإنسانية المتحضرة، المتمثلة في الوقوف في الطابور، واحترام الثقافات الأخرى، والتعامل مع الناس بلطف وحرفية.
قد يبدو كلامي ثناء على مدينتي، لكن لا يمكن أن نغفل حقيقة التجربة التنموية التي نجحت فيها. ولا أعني بها تجربة العمران والبنية التحتية والخدمات الراقية فقط، بل إلى جانب ذلك، تجربة المنظومة المتكاملة بدءاً من دخول الزائر بوابة المطار حتى عودته إليها، والمتمثلة في تسخير كل شيء للإنسان، وتمحور كل الخدمات والأنظمة حول تيسير حياته اليومية.
إن المدن الحضارية هي التي تُعزز الجوانب الإنسانية الراقية بين أفراد المجتمع، وتدفع الإنسان إلى إظهار أجمل ما فيه. هي التي تدفعه للبس حزام الأمان، وإيقاف السيارة عند خطوط عبور المشاة. وهي التي تجعله يقول لو سمحت، ويرد بـ «شكراً»، ولا يتردد في نطق «متأسف».
كنتُ أعتقد أن الأفكار العظيمة والفلسفات الإنسانية لا تنبت في الصحراء، ولذلك تجد كبار المخترعين والمفكرين عبر التاريخ ينتمون إلى مدن خضراء ذات طقس جميل يسمح لهم الغوص في أنفسهم واكتشاف أجمل ما في داخلهم. لكنني عندما أنظر إلى الإمارات بشكل عام، وليس دبي فقط، أعيد النظر في تلك الفكرة. فأبو ظبي أخذت لها مكاناً مرموقاً عربيّاً وإقليميّاً في مجال الثقافة والأدب، وما جائزة الرواية العربية «البوكر» ومشروع «كلمة» إلا أكبر دليل على أنها بدأت تتحول إلى قِبْلة للثقافة العربية، ناهيك عن مشاريعها الفنية العملاقة. وقبل أيام قال لي أخي إنه متفاجئ من الخدمات الحكومية في عجمان عندما ذهب إلى دائرة البلدية والتخطيط لإنهاء معاملة ما، فقيل له «لا داعي للحضور، فقط أرسِل أوراقك بالبريد الإلكتروني». والزائر إليها اليوم يرى أنها أصبحت مدينة أخرى من ناحية البنية التحتية، وخدمات الحكومة الإلكترونية، والأنظمة الإدارية.
سيقول البعض بعد قراءة هذا المقال إنه يمدح دولته، ولستُ أنكر ذلك إذا كان يصب في سياق الحديث عن تجارب حضارية من مدن فَتِيّة مقارنة بالمدن العربية ذات التاريخ الطويل، التي أتمنى من صميم قلبي أن تبدأ العمل والنهوض. لا شك أننا في الإمارات مازلنا في حاجة إلى مزيد من التطوير والتنمية، ولكن إذا زرتَ مجلس أحد حكام الإمارات أو أولياء عهودهم فستجد أن النقاشات المُحتدمة فيه تدور حول البناء والتجديد. وإذا تحدثتَ إلى مسئول فستجد جُلّ أحاديثه عن خطط مؤسسته وجهودها. ما تحقق في الإمارات لم يكن صدفة أو حظّاً، واقرأ ملف «ملامح استراتيجية حكومة دولة الإمارات» الموجود على الموقع الإلكتروني لمجلس الوزراء لتدرك ذلك. قد لا يستوعب العربي أن دولة عربية لديها خطة استراتيجية وملتزمة بتنفيذها وقياس نتائجها كل عام، إلا أن الواقع يؤكد ذلك. إن ما تحقق في الإمارات جاء بعد جهد طويل وإخلاص نبيل، فالجهد يبني الأمم، والإخلاص يحافظ عليها.
إقرأ أيضا لـ "ياسر حارب"العدد 4088 - الجمعة 15 نوفمبر 2013م الموافق 11 محرم 1435هـ