(خالد) صديق الطفولة وزميل الدراسة، منذ أن فتحنا أعيننا في الحي الصغير الواقع في إحدى ضواحي العاصمة، ونحن بريئان صغيران صديقان حران، حيث نعيش سنويّاً أجواء شهرمحرم بالبحث عن الوجبة الدسمة التي تقدمها المآتم المختلفة من دون الثواب والوعظ والإرشاد وجمع الحسنات والاستماع معاً للخطباء عبر المنابر، كلانا لا يعرف أن شهر محرم أكبر ثورة وانتصار للصبر وللعقل والنفس والقلب ضد الطغمة الفاسدة الكامنة في جيش جرار نهايته النار وبئس القرار!
إلا أنه وفي إحدى الليال صدفة حينما دخلنا أحد المآتم الكبيرة، وكان الخطيب قطع شوطاً في خطبته مخاطباً الجالسين عن سبب ثورة وانتفاضة الإمام الحسين (ع) محركاً عاطفة زميلي «خالد» وعقله، في نهاية المجلس راح خالد يخاطب نفسه ويخاطبني من على منبر عقله وعواطف قلبه، قائلاً يعني إن الحسين (ع) رفض البيعة والمغريات وآثر الموت من أجل المبادئ والقيم التي نحن نعيشها ونستمتع بها وكاشفاً ومعريّاً للعالم الشخصيات البلاطية والطوبية من واقع كربلاء المتمثلة في بني أمية الذين ركضوا وراء المادة والسلطان والبلاط، ومقدماً للبشرية الإنسان الحسيني الإصلاحي متمثلاً في «الحسين وأصحابه وعلى رأسهم أخوه العباس».
«وما أعجبني يا جعفر وشدني كثيراً وقلب حياتي رأساً على عقب هو موقف العباس البطولي والرجولي مع أخيه (الإمام الحسين) وذلك عندما سمعت من أحد الخطباء البارحة، حينما انبرى من منبره وهو متحمس قائلاً: «إن العباس رفض البيعة والمنصب، بل رفض الدنيا كلها من أجل الحسين (ع)، والأدهى من ذلك أنه رفض الأمن والأمان لنفسه في حين أخوه لا أمان له» و الذي أكده أيضاً حينما صرخ الخطيب في وجوهنا حتى ظننت أن الشمر جالساً بيننا قائلاً «قبح الله وجهك يا شمر... أتعطيني الأمن والأمان وأخي وريحانة رسول الله لا أمان له «!
إلى أن استسلم خالد لعاطفته في البكاء والنحيب في حلكة الليل وسكونه حتى أيقظ والدته مذعورة مسرعة إليه، بأسئلتها الفظة التي لم تجد جواباً، فلم يعجبها سلوكه وانزواؤه مع نفسه حتى شكته إلى خاله! حبي لهذا المنحر الشريف، الذي ظل يتدفق إلى اليوم حبّاً وكرامة وهيبة لملايين الفقراء والثوارالمستضعفين والمحرومين.
اسمع يا خالي «الحسين ليس للشيعة فقط بل لجميع المسلمين والمسيح وللمحرومين وللمستضعفين والأيتام». الحسين قضية مفتوحة ستظل باقية نعيشها كل يوم في سلوكنا.
أخيراً ظهر القمر وسطعت الشمس وانكشف المستور... وأيقن جعفر أيضاً أن واقعة كربلاء ليست جلداً للظهور بالسياط وليست للمتاجرة بالشعارات المخيفة ولا بالقصص الكاذبة هنا وهناك يكررها الخطباء من مأتم إلى مأتم، كي تكسب منها آلاف الدنانير لتركب بها السيارات الفاخرة، و لتسكن بها الفلل العالية، وتلهو بلسانك في كل ليلة فوق المنابر، ولا لجمع المال من هذا المأتم ومن ذاك المأتم دون مبالين بما يطرحونه من قصص خرافية كي تبكي الحضور واللطم على الصدور!
مهدي خليل
الجيش الأموي الذي حارب الإمام الحسين (ع) في كربلاء، كان خليطاً من الجهلة والمحاربين القدامى والمرتزقة، حتى قيل ان منهم من خرج لقتال الامام الحسين لقاء حفنة من التمر، و كانت ردودهم وتعليقاتهم على خطب الإمام الحسين الواعظة وكلمات أصحابه تكشف جهلهم، وأنهم ليس لديهم من علم الدنيا والدين شيء.
فعندما وقف الحسين (ع) يخاطبهم معرفاً إياهم بنفسه ومذكّراً بأحاديث الرسول في شخصه الكريم، ردّ عليه شمر بن ذي الجوشن وهو قائد عسكري بقوله: «هو يعبد الله على حرف إن كان يدري ما يقول»! وهذا زهير بن القين قد وقف امام الجيش ليعظهم وينصحهم فرماه شمر بن ذي الجوشن بسهم قائلاً: «لقد أبرمتنا بكثرة كلامك»! كما خاطبهم برير بن خضير بمقال فيه تذكير وتوجيه لكنهم ردّوا عليه قائلين: «يا هذا ما ندري ما تقول»، فقال: «الحمدلله الذي زادني فيكم بصيرة».
وربما نتيجة هذا الجهل، ولأسباب نفسية أخرى من بينها البغضاء والحسد الذي يكنّه أولئك لآل بيت النبي، لم يتردّد هؤلاء في الاتيان بأبشع الجرائم بدءًا من قتل الأطفال الرضّع وليس انتهاء برضّ الأجساد الطاهرة بحوافر الخيل.
كما بدت خستهم وضِعتهم بعد مقتل الحسين (ع) وانتهاء المعركة حيث عمدوا الى حرق خيام بنات الرسول ونهب ما فيها وسلب الفتيات والنساء حليّهن، بل لم يكونوا يتورعون عن سحب الأقراط من آذان الصغيرات حيث انسلخوا من آدميتهم فضلاً عن دينهم.
ومع كل ذلك وعلى رغم خلو هذه العصابة الفظّة الغليظة من الانسانية والخلق الكريم فإن فيهم (البعض) من كانت تمنعه عادات عربية أصيلة انتجتها قيم العرب في الجاهلية تطبّعوا عليها، من بعض تلك العادات العربية احترام النساء وعدم ترويعهن أو شتمهنّ فضلاً عن ضربهن وإيذائهن.
وهنا يذكر التاريخ أنه في يوم العاشر من المحرّم تسلل شمر بن ذي الجوشن مع زمرة من العسكر (قبل انتهاء المعركة) وهاجم خيم النساء فتصايحن مذعورات، فجاء شبث بن ربعي وهو من قادة الجيش الأموي يوبّخ الشمر لفعلته تلك، مخاطبا اياه «أمُرعِبًا للنساءِ صِرتْ! ما رأيتُ مقالاً أسوأ من مقالك ولا موقفاً أقبح من موقفك» فخجل وانصرف. قبل ذلك فإن الرسول الكريم (ص) كان عاتب بلال بن رباح عندما عاد بالأسيرات من إحدى المعارك ومرّ بهن في الطريق على جثث قتلاهن، فعاتبه الرسول (ص) بقوله «هل نزعت الرحمة من قلبك».
وقد نحا علي (ع) منحى الرسول فأوصى أصحابه يوم صفين بقوله «ولا تهيجوا امرأة، وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم وصلحاءكم».
لذلك فإن العربي الأصيل وصاحب الدين والحميّة لا يتعرّض للنساء و»يستأسد» عليهن مروّعا إياهن متكبّرا ومتعاليا امام ضعفهن وعجزهن عن رد الإساءة أو الاعتداء... سواء في البيت أو الشارع.
جابر علي
لو شاء الحسين (ع) أن يعتذر عن الجهاد، لوجد كل الأعذار التي يتوسل ببعضها الناس للتقاعس عنه، لوجدها مجتمعة، لكنه رأى الموت له عادة وكرامته من الله الشهادة، فأعلن الجهاد، وكان ذلك من أعظم إنجازاته.
معركة كربلاء وتسمى أيضاً «واقعة الطف»، هي ملحمة وقعت على ثلاثة أيام وختمت في 10 محرم سنة 61 للهجرة، والذي يوافق (12 / تشرين الأول 680م)، وكانت بين الحسين بن علي بن أبي طالب ابن بنت نبي الإسلام محمد بن عبدالله، الذي أصبح المسلمون يطلقون عليه لقب «سيد الشهداء» بعد انتهاء المعركة، ومعه أهل بيته وأصحابه، وجيش تابع ليزيد بن معاوية.
تعتبر واقعة الطف من أكثر المعارك جدلاً في التاريخ الإسلامي فقد كان لنتائج وتفاصيل المعركة آثار سياسية ونفسية وعقائدية لا تزال موضع جدل إلى الفترة المعاصرة، حيث تعتبر هذه المعركة أبرز حادثة من بين سلسلة من الوقائع التي كان لها دور محوري في صياغة طبيعة العلاقة بين السنة والشيعة عبر التاريخ، وأصبحت معركة كربلاء وتفاصيلها الدقيقة رمزاً للشيعة، ومن أهم مرتكزاتهم الثقافية، وأصبح يوم 10 محرم أو يوم عاشوراء، يوم وقوع المعركة، رمزاً من قبل الشيعة «لثورة المظلوم على الظالم، ويوم انتصار الدم على السيف».
رغم قلة أهمية هذه المعركة من الناحية العسكرية، حيث اعتبرها البعض محاولة تمرّد فاشلة قام بها الحسين، إلا أن هذه المعركة تركت آثاراً سياسية وفكرية ودينية مهمة، حيث أصبح شعار «يا لثارات الحسين» عاملاً مركزياً في تبلور الثقافة الشيعية، وأصبحت المعركة وتفاصيلها ونتائجها تمثل قيمة روحانية ذات معاني كبيرة لدى الشيعة، الذين يعتبرون معركة كربلاء ثورة سياسية ضد الظلم.
بينما أصبح مدفن الحسـين في كربلاء مكاناً مقدساً لدى الشيعة يزورنه، مع ما يرافق ذلك من ترديد لأدعية خاصة أثناء كل زيارة لقبره.
أدى مقتل الحسين إلى نشوء سلسلة من المؤلفات الدينية والخطب والوعظ والأدعية الخاصة التي لها علاقة بحادثة مقتله، وألفت عشرات المؤلفات لوصف حادثة مقتله. يعتبر الشيعة معركة كربلاء قصة تحمل معاني كثيرة كالتضحية والحق والحرية.
ومن شعر الإمام الحسين (عليه السلام) ما نقله عنه ابن أعثم صاحب كتاب الفتوح، وهو أنه لما أحاطت به جموع ابن زياد، وقتلوا من قتلوا من أصحابه، ومنعوهم الماء كان له ولد صغيرعبدالله الرضيع فجاءه سهم فقتله، فحفر له الإمام الحسين قبراً بسيفه، وصلى عليه ودفنه، وقال شعراً منه:
غدر القوم وقدماً رغبوا
عن ثواب الله رب الثقلين
قتلوا قدماً علياً وابنه
حسن الخير كريم الأبوين
حسداً منهم وقالوا اقبلوا
نقتل الآن جميعاً للحسين
خيرة الله من الخلق أبي
ثم أُمّي فأنا ابن الخيرتين
فضة قد صفيت من ذهب
فأنا الفضة وابن الذهبين
من له جد كجدي في الورى
أو كشيخي فأنا ابن القمرين
فـاطم الزهراء أُمـي وأبي
قاصم الكفر ببدر وحنين
منى الحايكي
هلالٌ مقوّس يُشرف السماء بظهوره...هلالٌ يأتي بعادة موسمية إسلامية كل عام.
مضى أكثـر من 1400عام ومازالت الأمة الإسلامية تعيش استنفاراً بدايات الأعوام ويقينًا ستعيشها كل عام مادامت الأرض.
اتخذ الكثير الموسم العاشوري موسماً روتينيّاً مختلفاً، فهو حافل غير شاغر نتيجة انشغاله بذكر ما وقع في الطف آنذاك.
هنا السؤال ما النتيجة التي تحظى بها الأمة كل عام بعد الشغف والتهيؤ الظاهري المرئي لاستقبال هذا الموسم.
خروج الجيل المُحيي لهذه المناسبة لا يكون وافياً بالصورة التي ينبغي ويجب أن يخرج بها، السبب هنا في التهيؤ، فكما تهيأ الجميع ماديا كان ينبغي عليه أن يتهيأ فكريا وروحيا، ولكن ما نراه سوى ظواهر تجاريها الأجيال بعـد الأخرى كأنها فطرة! هذا دليل لعدم الإدراك التام على رغم كل السنين ما نوع التهيؤ الذي ينبغي على الجيل مراعاته.
أما من الناحية الإحيائية فنرى أثناء ممارسة الطقوس يلطم الشباب صدره حتى احمرارها وآخر يفجر الهامة حتى نزفها، أما الهاتف بالهتافات الكربلائية التي يسعى بقوة صوته إلى اختراق السماء ما هو إلا صوت أرهق جهازه الصوتي في إصدارها دون أن تلامس عقله، ومحك هذا وبرهانه أفعاله الذي هو عليها وبهذا هو ينقض الغاية التي يسعى لها بتصويب السهام لمن يحيي من أجله هذه الشعائر.
«عاشق أنا للحسين» عبارة لازمت الشباب لسانيّاً ولم نرها تلازمهم فعلا وأخلاقا. فلا يكون الحسين في أقوالك فقط، ولا تنظر له وتتبعه بما تروق له نفسك وتهواه. البعض يفعل هذا في الساحات الدافعة إلى الظلم فتتقدم بهتافات حسينية وهو لم يعتد بها أخلاقيا كما في «هيهات منا الذلة» فالذلة أحيانا تكون للشيطان لا للظالم فقط!
كل ما أنصحك به عزيزي أن تعود وتبحث ما الذي جعل من الحسين شهيدا؟ لم يكن السبب بروزه لساحات القتال فقط بل كان بأخلاقه وعبادته.
إذاً، لا تسعَ في قتل الحسين تكرارا ومرارا كل عام فأنت ستحييه كما تريد عندما تحيي منهجه الأخلاقي والعبادي السامي، فلا تعشقه جسدًا بـل إعشقه منهجاً وستتحقق «أنا للحسين عاشق « دون التلفظ بها.
زهراء جاسم رمضان
العدد 4087 - الخميس 14 نوفمبر 2013م الموافق 10 محرم 1435هـ
الحزيري
المقال حلو وجميل