الشاعر الإنجليزي ألكسندر بوب (1688– 1744) له مقولة لافتة، كان يقول: «لا تُظهِرُ الأفعال دوماً معدن الرجال، فمن يقوم بعملٍ كريمٍ ليس شرطاً أن يكون كريماً». ولكلّ مَنْ له قِلَّة دراية باللغة، فإنه سيُدرك أن هذا الشاعر، لا يُخالف القاعدة والمنطق، في كَوْن الفعل أصدق من القول.
بمعنى، أنه لم يُرِد أن يهدِمَ سَلِيقَة السلوك البشري ومفهوم الحياة، التي تعتبر الفعل، الدَّالة اليقينية على مقاصد الناس، فينالوا على إثره تأثيماً أو تجريماً، بذات المقدار الذي هو في مجال الثناء والتقدير والمروءة والموقف والثبات. إذاً، ماذا أراد أن يقول ذلك الشاعر وابن تاجر الكَتَّان؟
الحقيقة، أن بوب، وبعد أن وضع «لا النافية» و «دوماً» كـظرف زمان مبني على الفتح في مقولته، كان يريد أن يقول، بأن الأصل هو أن الأفعال تُظهِر معادن الرجال، ولكن ليست دائماً، وبالتالي، حديثه هنا هو عن الشَّواذ من الرجال، الذين يُخادعون الناس بأفعال ليست من سجاياهم، فالفعل «الكاذب» مفصول عندهم عن دافعه «الحقيقي»، وبالتالي وجود انفصام في نفوسهم.
مقصد هذه المقدمة، هو الحديث عمَّا يُمكن أن أسمِّيه بـ «العاطفة المتعفِّنة» عند البعض. وربما أقول بداية أن تفسيرات اللغة العربية كانت غاية في الإبداع، عندما ذَكَرت، أن كلمة تَعَفَّنَ، تعني: «فَسَد من نُدُوَّةٍ وغيرها فَتَفَتَّتَ عند مَسِّه. وقال الأَزهري: هو الشيءُ الذي فيه نُدُوَّةٌ ويُحْبَس في موضع مغموم فَيَعْفَنُ ويَفْسُد» كما في لسان العرب. وما أكثر البشر من حولنا، مِمَّن تعفَّنت عواطفهم وتفتت.
تتجلَّى العواطف المتعفنة أكثر، عند مَنْ لا يرون البشر متساوين أمامهم. أولئك المشطورون والمنفصِمون في عواطفهم، مِمَّن تبكيهم الأفلام السينمائية «التراجيدية»، وتضحكهم أحزان البشر الحقيقية، فقط لكرههم إياهم دينياً/ طائفياً/ عرقياً/ قبلياً/ سياسياً. إنهم متعفنون لأنهم حَبَسوا عواطفهم «الفطرية» في مغموم الحقد الديني والضغينة الطائفية من منطلق الغيريَّة، فصاروا عَفِنين.
هذا النوع من العواطف، هو أكثر الأنواع دناءةً وانحطاطاً، بل إن تعفّنها قد ينفيها من الأساس، كون العاطفة، نابعة من الرقة للشيء، والخلق الحسن، بالفضل؛ في حين، لا تستقيم وتلك السَّاديَّة في الشعور. وربما كانت تلك من أشد أمراض النفس فتكاً بالبشر، وبالمجتمعات المتساكنة، والتي تناولتها علوم النفس منذ أن ظَهَرَت على أثير انحرافات الضمير.
عندما يصدق أحدٌ هنا مرةً، ويكذب هناك ألف مرة (رغم اقتضاء الحاجة في الحاليْن بالتساوي) لا يعتبر صادقاً أبداً بنظر الأخلاق، فهذه الصفات لا تتجزأ، وبالتالي، فإن مَنْ تتحرَّك عاطفته تجاه مَنْ يلونه نسباً في الدم والروح مرة، وتنكسر أمام آخرين من الأغيار (دينياً/ طائفياً... إلخ)، ألف مرة، لا يعتبر هذا صاحب عاطفة مطلقاً، بعد أن عَفَّنها في سوءات ضميره الميت.
ماذا لو جيء بآمر سجن، لَقِيَ على يديه القاسِيَتيْن (بالضرب وإهانة النفس) خَلْقٌ كثير حتفهم، ورأى ذات الأذى الجسدي والنفسي الذي يُذيقه ضحاياه على ولده أو ابنته أو أخيه أو أبيه، فهل يا ترى سيغمره فَرَحٌ أم حزن؟ البداهة تقول، بأنه سيكون في موضع الكَمَد والانقباض، فالنفس مجبولة على الحزن والفرح في المواضع التي يتطلبانها.
لكن الأسف كل الأسف، حين يرى (ذلك المتعفن في مشاعره) ضحاياه مُجرَّد لا شيء، أو أنهم أرقام فقط، كما قال أحد أولئك الأشباه، وهو الديكتاتور السوفياتي جوزيف ستالين: «تعتبر حالة وفاة حادثة تراجيدية، أما مليون حالة وفاة فهي إحصائية»، فإنها اللاإنسانية في أكبر تجلياتها.
تُرَى كيف كانت مشاعر بينيتو موسوليني وهو يرى كلارا بيتاتشي وهي معلقة رأساً على عقب في محطة للبنزين قبل أن تُعدَم معه، بعد أن كان يتشفى هو في منتسبي جبهة التحرير من الإيطاليين، ويسحلهم في شوارع روما، ويُدمِّر الأرياف غير المنصاعة لسياسته الفاشستية؟ وربما وجدنا أمثال ذلك كُثُراً في عالمنا قريباً وبعيداً (رغم أننا نكره مثل ذلك أن يحصل أساساً).
كثيرون ممن دخلوا عالم السياسة والسلطة، استغرقوا (وبسبب المال والقوة) في أفعال لا إنسانية، فلم تحرِّك فيهم تجاه المظلومين شعرة، حتى أنسَت مظالمهم مظالِم مَنْ خلو من المتسلطين.
هنا، أذكر حادثة تاريخية لأنهِي بها سؤال المقالة، وهي جديرة بالتأمل فعلاً. الحادثة تقول، أن عبد الملك بن مروان كَتَبَ إلى الحجاج بن يوسف الثقفي (وما أدراك ما الحجَّاج)، حاكم العراق، أن ابعث إليَّ برأس أسْلَم بن عبدٍ البكري؛ لِمَا بلغني عنه، فأحضَرَهُ الحجاجُ فقال أسْلَم: أيها الأمير (الحجَّاج)، أنتَ الشاهدُ وأمير المؤمنين (عبد الملك) الغائب، والله تعالى يقول «يا أَيُّها الذينَ آمنوا إِن جاءكُمْ فاسِقٌ بِنبأٍ فَتَبيَّنوا أَن تُصِيبوا قَوماً بِجهالةٍ فَتصبِحوا على ما فَعَلْتُمْ نادِمينَ» (الحجرات، 6) وما بَلَغَه باطلٌ، وإني أعُولُ أربعاً وعشرين امرأة، ما لَهُنَّ كاسِبٌ غيرى، وهُنَّ بالباب، فأمر الحجَّاج بإحضارهِن، فلما حَضَرْنَ جَعَلَتْ هذهِ تقول أنا خالته، وهذه تقول أنا عمته، وهذه تقول أنا أخته، وهذه أنا زوجته، وتقدَّمت إليه جاريةٌ فوقَ الثمانِ ودون العَشْر سنين، فقال لها الحجَّاج: من أنتِ؟ فقالت أنا ابنته، ثم قالت: أصلح الله الأمير، وجَثَت على ركبَتَيها وقالت:
أَحجّاج لَم تَشهد مقام بناتهِ .. وَعمّاتهِ يُندبنهُ اللّيلَ أَجمعا
أَحجّاج لم تقتل بِه إِن قَتلتهُ .. ثَماناً وعشراً واِثنتين وأربعا
أَحجّاج من هذا يَقومُ مقامهُ.. عَلينا فَمهلاً لا تَزِدنا تَضَعضعا
أَحجّاج إمّا أَن تَجودَ بِنعمةٍ .. عَلينا وإمّا أَن تُقتّلنا مَعا
فبكى الحجَّاج وقال: والله لا زدتَّكن تضعضعاً ولا أعنتُ عليكنّ أحداً.
السؤال الآن: هل يوجد في زماننا مَنْ هو أقسى من الحجَّاج في عواطفه؟ الجواب لكم.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4086 - الأربعاء 13 نوفمبر 2013م الموافق 09 محرم 1435هـ
قول جميل لأبي عبد الله الحسين عليه السلام في يوم استشهاده
شرّ خصال الملوك: الجبن من الأعداء، والقسوة على الضعفاء، والبخل عند الإعطاء.
بوركت
مقال مميز استاذي الفاضل
نعم
مقال جميل ويؤلم القلب وصوره منتشره بيننا في هذا الوطن
اصحاب الحا الطويلة والثوب القصير
لك في سوريا وغيرها خير دليل يقتلون الصغير والككبير على الظن قبل الليقين يحرقون الاخضر واليابس لا اعتقد ان البشرية اوجدت اناس كهاؤللاء قسوة وخبث وظلم