انكبَّ القاضي صاعد الأندلسي على مواصلة الدراسة والبحث في طليطلة وهو في الثامنة عشرة من عمره فاتصل بابن حزم وتراسل معه، ولازم هشام بن هشام بن خالد الكناني المعروف بابن الوقشي فأخذ منه صناعة المنطق وعلوم النحو واللغة والشعر إلى الأحكام بعلم الفقه والأثر والكلام، كذلك أخذ علوم العدد وهيئة الأفلاك وحركات النجوم من أستاذه إبراهيم بن لب بن ادريس التجيبي المعروف بالقويدس، وكان على صداقة مع إسحق بن قسطار وهو من أبناء الجالية اليهودية وخادم الأمير مجاهد العامري فأخذ عنه أصول المنطق وآراء الفلاسفة و»كان متقدما في علم اللغة العبرانية بارعا في فقه اليهود وحبرا من أحبارهم» (ص205).
في طليطلة برز نجم صاعد قبل بلوغه الأربعين فتولى منصب القضاة وكتب في علم الرصد «المؤلف في إصلاح حركات النجوم» ويسميه أحيانا «إصلاح حركات الكواكب والتنبيه على خطأ المنجمين»، وكتب في التاريخ «جوامع أخبار الأمم من العرب والعجم» وكتب في الديانات والفرق «مقالات أهل النحل والملل». وأنجز في سنة 460 هجرية (1067م)، وقبل وفاته بسنتين، كتابه «طبقات الأمم» أو كما يسميه «التعريف بطبقات الأمم» وفيه وضع خلاصة رأيه في تاريخ الأفكار ومال إلى أهل الفلسفة وصناعة المنطق وتوفي سنة 462 هجرية وهو في عمر لم يتجاوز سن الـ 42.
ضاعت لاحقا معظم مؤلفات صاعد لكنه في زمنه ترك تأثيره الكبير على جيله وأبناء عصره على رغم وفاته في سن مبكرة. كذلك نجد صدى أفكاره في مؤلفات الفلسفة والتاريخ وخصوصا مسألة «طبقات الأمم». فابن خلدون مثلا طبق الفكرة على العمران وتاريخ الحوادث وتعاقب الأجيال والأمم بينما اكتفى (صاعد) في مؤلفه على دراسة «طبقات الفكر» في مجرى الزمن وتعاقب الأمم وإبداعها في مجالات العلوم.
على أساس تلك الفرضية قام بتركيب نظرية معرفية عن تاريخ الأفكار وتطورها وتأثير الأمم على بعضها وتوارث معارفها وانتقالها من مكان إلى آخر من طريق التلقين والتعلم المباشر أو من طريق الاتصال والتعارف والترجمة (النقل غير المباشر). فالأفكار عنده مركبة فهي نتاج تزاوج الأصيل والدخيل وهي أصيلة وأصلية وفي الآن منقولة ومترجمة. فكل «أمة» لعبت دورها الخاص في تقديم لون من ألوان المعرفة والعلوم واشتهرت في صنف من الأصناف وأدخلت عليه ما حصلت عليه من أمم سابقة أو مجاورة فانتهى الأمر إلى تقدم البشر الفكري وتطور علومهم وعقولهم ومعارفهم مع الزمن.
على أساس هذا الترتيب الجغرافي - التاريخي صنّف قاضي طليطلة درجات الأمم وطبقاتها وصلاتها العلمية ببعضها ومدى تأثيرها على وعي بعضها. فصاعد يرى أن الناس في مشارق الأرض ومغاربها وجنوبها وشمالها هم من نوع واحد يتميزون بثلاثة أشياء «الأخلاق والصور واللغات» (ص33).
كانت الأمم قبل تشعبها إلى قبائل وافتراق لغاتها «سبع أمم» وهي الفرس، والكلدان (السريانيون والبابليون)، واليونان (الروم والأفرنجة والصقالبة والروس)، والقبط (أهل مصر وأهل الجنوب)، والترك، والهند والسند وجوارها و «من اتصل بهم»، والصين وأقوامها و «من اتصل بهم» (ص39).
بعدها يقسم صاعد تلك الأمم السبع إلى طبقتين: طبقة عنيت بالعلم «فظهرت منها ضروب العلوم وصدرت عنها فنون المعارف». وطبقة «لم تُعْنَ بالعلم عناية يستحق منها اسمه وتعد بها من أهله» (ص40).
أغرب ما في نظريته الطبقية أنه أخرج من أهل العلم الصين والترك والصقالبة والروس والبرابر وأصناف السودان وغيرهم من الشعوب، وذلك لسببين: الأول ضعف المعرفة والصلات إذ إنه لم «ينقل عنها فائدة حكمة ولا دوّنت لها نتيجة فكرة» والثاني طبيعة الطقس وتطرفه في شمال الأرض (بعد الشمس عن رؤوسهم) وجنوبها (طول مقاربة الشمس رؤوسهم).
بعد أن يسقط صاعد العديد من الأمم من دراسته لتاريخ الأفكار يعود إلى تقسيم الطبقة التي عُنيت بالعلم فيضيف إلى السبع أمة جديدة وهي الثامنة في ترتيبه و «هم بنو إسرائيل» إذ لم يشتهروا بعلوم الفلسفة «وإنما كانت عنايتهم بعلوم الشرائع وسير الأنبياء» ولهم حساب دقيق «في تاريخ شريعتهم ومعاملاتهم» وهم «بيت النبوة ومعدن الرسالة من بني آدم وجمهور الأنبياء». (ص202).
بدأت نظرية صاعد عن المجرى الزمني لتطور الأفكار مربكة ويرجح أن سبب خلل التراتب والترتيب في نظريته يعود إلى قلة معلوماته عن الصين والترك والروس والحضارات الإفريقية القديمة بينما يدل إعجابه باليهود إلى نفوذ الجالية في الأندلس ودورها الخاص في خدمة «أمراء الطوائف» وخصوصا في حقلي الحساب والطب.
إلى الخلل المذكور هناك ثغرات في فكرة صاعد من ناحيتي التتابع الجغرافي والتتالي الزمني الأمر الذي يفسر تفضيله التسلسل الجغرافي على الأقدمية التاريخية لتسهيل البحث وتنظيم حلقاته. لذلك يبدأ شرقا من الهند (الأمة الأولى) والفرس (الثانية) والكلدان (الثالثة) واليونان (الرابعة) والروم (الخامسة) ومصر (السادسة) والعرب (السابعة) وأخيرا الثامنة (اليهود).
يحتل العرب نحو نصف صفحات كتابه نظرا لموقع الإسلام ودوره الريادي في عصره، الأمر الذي اضطره إلى دراسة تاريخ العرب العلمي في فترتي الجاهلية والإسلام ثم لاحق تطور العلوم في تاريخ الإسلام من دولة إلى دولة وصولا إلى الأندلس (قبل الفتح وبعده) وهي برأيه «آخر المعمور في المغرب» (ص158).
بسبب اتساع جغرافية الإسلام وتنوع شعوبه وثقافاته ودخول حضارات قديمة في ظلاله (الفرس، بلاد ما بين النهرين، بلاد الشام، مصر وبلاد السودان، والبربر، والأندلس) تعقدت نظرية صاعد ففرض عليه البحث دراسة كل حضارة على حدة وصولا إلى دخولها عصر الإسلام أو احتكاكها به. وباتت كل حضارة عنده مركبة من ثقافتين: قبل الإسلام وبعده. وبرأيه أن الاحتكاك سابق على ظهور الإسلام وبعده. فمثلا أخذ أول فلاسفة اليونان بندقليس الحكمة «عن لقمان الحكيم بالشام، ثم انصرف إلى بلاد اليونانيين، فتكلم في خلقه العالم بأشياء تقدح ظواهرها في أمر المعاد (...) وبندقليس أول من ذهب إلى الجمع بين معاني صفات الله تعالى وأنها كلها تؤدي إلى شيء واحد (...) وإلى هذا المذهب في الصفات ذهب أبو الهذيل محمد بن الهذيل العلاف البصري» (ص73). فهناك حركة دائرية في تلاقح الأفكار فاليوناني جاء إلى بلاد الشام وأخذ منها الحكمة وعاد إلى بلاده ثم عادت أفكاره ودخلت بلاد الإسلام من طريق أحد فلاسفة المعتزلة (العلاف). وتكرر الأمر مع فيثاغورس حين أخذ الحكمة والهندسة عن المصريين قبل الفتح الإسلامي «ثم رجع إلى بلاد اليونان وأدخل عندهم علم الهندسة وعلم الطبيعة وعلم الدين» (ص74). وفيثاغورس هو أستاذ سقراط إلا أن الأخير «له في شأن المعاد آراء ضعيفة بعيدة عن محض الفلسفة خارجة عن المذاهب المحققة» (ص75). وشارك أفلاطون سقراط في الأخذ عن فيثاغورس «إلا أنه لم يشتهر بالحكمة إلا من بعد سقراط» (ص76). وأفلاطون أستاذ أرسطو وإليه «انتهت فلسفة اليونانيين وهو خاتمة حكمائهم وسيد علمائهم» (ص77).
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2464 - الجمعة 05 يونيو 2009م الموافق 11 جمادى الآخرة 1430هـ