ثمة من تأتيه الدنيا بمواكب إحياء لذكره وهو بعيد بجسده عن الناس وروحه تأخذ بالشغاف. وثمة من تلعنه الدنيا بمواكب حاضراً أو في حفرة من حفر نار أعدّها لنفسه، ببغي لا منتهى له، وحيْف استمرأه، وطغيان وجد فيه علوِّه الزائف. ثمة من يضع روحه ودمه وآله ضمان أن يكون كل ذلك بعض خلاص للإنسان؛ وخصوصاً الذي لا بيده يطأ تلك الإنسانية ويُسْلم قيادها لمن يمعن في إذلالها واستعبادها والاحتقار.
بين أنموذجين ومثلين الحياة تُبْتلى وتمضي. نموذج فيه الرفْعة والشرف والسؤدد، ونموذج فيه آخر ما توصّلت إليه دناءة النفس وانحطاطها والنذالة! في الأنموذج الأول يُبْتلى المريدون والتابعون والذين هم حتى النَفَس الأخير عشّاق لطريق ذات الشوكة. وفي الأنموذج الثاني تُبْتلى الدنيا والبشر وحتى الأشياء بمريدي وتابعي الوهم والوهن والسراب. ولن تستغني الدنيا عن تمحيص وبلاء لمعادن أولها في المواجهة يجد اطمئنانه واستقرار روحه، وثانيها في فراره وهروبه ونكوصه وكشف عورته طلباً لمنجاة واستقرار لن يدوم كما يرتدّ طرْف كل منّا في نبض حياة.
لو فتّشتَ الدنيا حتى قيام يوم الساعة عن إيثارٍ في زمن عزّ فيه البذل ومرحت فيه الجاهلية باستعادة قواعدها بعد فتح مكة والتصنيف الذي نال قوماً، من المؤلفة قلوبهم حتى «الطلقاء»، فلن تعثر على معنى البذل وقيمته وشرفه وصبره في ذات الله كما هو شاخص وماثل في سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام في دنيانا ومقام البقاء والخلود. الحسين ليس ابن نظام وقته، يحرّكه وقناعاته كيف وأنّى شاء. ذلك محصور في الذين ولدوا ليعلفوا كما تعلف البهائم، وينحنون بحيث مع مرور الوقت يصابون بعمى وهم يبصرون بحيث لا يميّزون لون السماء!
ثمة ممارسات وقحة ومتجرّئة على الله بالسلوك والممارسة والقتل والقمع والإبادات وقتها، تريد أن تجهر بالحقيقة التي تم إقرارها في البلاطات وعلى الأمة التي يراد لها أن تكون دون الحذاء أن تؤمن بأن الخليفة وقتها قد احتل جهراً مكان الله. ماذا يعني: ذهبت هاشمُ بالملك فلا/ خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل؟ لا شيء غير فرض البديل عن الخبر والوحي ومن هو في العزة والجلال سببهما. الملك بديل عن كل ذلك في رأس خليع زنيم متهتّك يأتي المحارم! وعيٌ مستلبٌ مرتهنٌ مُصادرٌ مراقبٌ، استسلم جُلّه إلى آلة موت لم تكُ تمزح، لأنها لم تراعِ الله في التجرؤ عليه كي تمزح مع خلقه.
دكُّ البيت الحرام وقتلُ أكثر من 300 صحابي، واغتصابُ أكثر من 1000 بكْر وفي مدينة رسول الأمة لن يضاهيه تجرؤ على الله إلا سفْك دم سبط نبيها. ما تبقّى من امتداد الرسالة والوحي. ولم يكُ العلامة عبدالله العلايلي، أحد بلغاء وفصحاء ومفكّري الأمة النادرين وقد تجرّد من مذهبيته في أكثر من سفْر رائع يندُّ حقيقة وضميراً وجهراً بالذي يؤذي المُخلَّفين ممن هم بين ظهرانينا اليوم؛ وخصوصاً في «مشاهد قصص من أيام النبوّة»: «إن الهجرة الأولى، هجْرة رسول الله، كانت، وغايتها البناء. وإن الهجرة الثانية، هجرة سبط رسول الله، كانت، وغايتها المحافظة على ذيّالك البناء». نجمٌ لم يهْوِ من علاه. ظل في سمائه مثلاً للنور به يُهْتدى ويُقْتدى كلّما ادلهمّ خطبٌ، وتواترت نكبات، وعصفتْ بالأمة رياح الغرباء على سنْخه ومساره والمدار الذي منه حركتها تصنع الحياة ولا تردمها، وتقيم الأخلاق ولا تكون صانعة للتوحّش، وتهيّئ للإنسان قدرته على أن يكون امتداداً لكل نماذج وأصوات الذين يُصلحون لا الذين يدكّون حيوات البشر ويحيلونها إلى ما بعد تصور الذهن البشري للجحيم باعتباره خاتمة النفي، ومآل العدم. أن تمتلك نص الوجود بتتبّع أثر الرسالة والوحي. أن تخرج هجرةً للذبح في ذات الله. أن تكون على موعدٍ مع الخلود الأبدي بعد مجزرة ساعات لدى الذين حرّضوا وموّلوا وأسرجوا وركبوا وعاينوا وشاركوا ومارسوا القتل والنهب والحرق والسبي والإذلال والشتم، والتشفّي، دون أن يفتّ ذلك في عضدك، فأنت المثل الأعلى في رسم خريطة الخروج والخلود. لم يتغيّر شيء بعدك.
على موعد هم الذين حاولوا - أقول حاولوا كي تعرف كل نفس قدْرها - أن يلتمسوا طريقك وينتهجوا نهجك. مورس عليهم الذبح والقتل والنهب والحرق والهدم والإذلال والشتم والتشفّي والتحريض؛ فقط لأن الموت أهون لديهم من أن يكونوا رهائن لمن لا شرْعة له في التعاطي مع الله كي تكون له شرْعَة في التعاطي مع خلقه. كأن من اتخذوك مناراً وقدوة ومثلاً، رجْع صدى لمباشرة لا يقوى عليها إلا أولو العزم ممن هم في دائرة الاختيار للجِسَام من المهمّات، والعصيّ على الإحاطة بحجم آلامه وضريبته وخواتيمه. ومن غيرك مذ تلقّفها السفهاء عدْواً على الإنسان وتسفيهاً للرسالة، سيفاً لا طعْن له إلا في الحق، ولم تعرف شجرة نسبه الطاهر بغْياً على ذي ركون للحق! وبالعودة إلى نموذج الحر في تفكيره بعيداً من عصبية منهج ومذهب وجماعة، العلامة عبدالله العلايلي، وهو السنيُّ/ الإمامي في تلمّس الحق أكثر من الحقيقة.
الحق ليس نسبياً وإن ظلت الحقيقة كذلك: «شاء الله أنْ لا يُحقّق مغزى أُمْثولة عليٍّ إلا ابنه الحسين، ابنه الحبيب... فردّدَ على شكل آخر: إذا لم تكنِ الحياة كما تريد، فحاولْ أن تجعلها كذلك... فإذا لم تنجحْ أيضاً، فلا تخُنْ ضميرك، وعِشْ وحدك مثالاً للحياة الفاضلة... ولا تأْلُ جهداً ببذل النَفْس، كي يبقى للحقِّ في تاريخ الباطل مَثَلٌ يضربه».
نجمٌ لم يهْوِ امتدادٌ لهجرة تبديد ظلام وظُلْمٍ مُحيط. هجرة نبي الأمة لإشاعة النور، وهجرة منك لإشاعة النور بدم بدّد الظُلَم والظُلْمَ وإلى اليوم منه حذرٌ ورجْفة مقيمة في دنيا الظالمين!
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4083 - الأحد 10 نوفمبر 2013م الموافق 06 محرم 1435هـ
احسنت
الا
الان يقطعون المسافات لدبح الاْضاحي البشرية لخدمة السلاطين
الحسن والحسين إمامان إن قاما وإن قعدا
السلام عليك يا أبا عبدلله