لماذا حصد فيلم «كابتن فيليبس» 8.1 من 10 في تقييم موقع IMDB العالمي للأفلام؟ لماذا تصدر شباك التذاكر بأكثر من 80 مليون دولار في أميركا فقط؟ وماذا في القصة أبعد من توثيق لحادثة اختطاف ربان سفينة شحن أميركية على يد قراصنة صوماليين عام 2009؟
يكتب أحدهم في مراجعته للفيلم «إنه يجعلك تفكر بكل الطرفين، وما إذا كان القراصنة أشراراً حقّاً أم لا»، ويصفه آخر بأنه «درس متفجر عن النفس البشرية».!
اللحظات الأخيرة
تغير الدقائق العشرون الأخيرة من الفيلم انطباع أي إنسان، إذ تضيف الكثير إلى ما يمكن أن يتصوره في نفسه أو في الآخرين، إذا ما وقع حقيقة في هذا الموقف.
دائما ما يكون البحر مثالا على امتحان الإيمان، لكن صعوبة فهم الجانب النفسي في شخصية الكابتن فيليبس، هو أنه ربان سفينة أميركي يختطفه قراصنة في عمق البحر، في حين تتهدده عملية عسكرية من قوات أميركية ودولية ليست مهمتها إنقاذه فقط.
كان فيليبس يعرف أن القوات مأمورة بأن تنهي هذه المعركة بأي شكل من الأشكال، قبل بلوغ الشاطئ! منذ أن وصلت الفرقة العسكرية الثانية هاليبرتون، عرف فيليبس أن الموقف في طريقه إلى إطلاق النار. بحسب ما تصف إحدى المراجعات للفليم، كان فيليبس يواجه الموت طوال تلك الرحلة، لكنه حينما رأى الطوافة العسكرية الثانية، عرف أنه ربما بات من الواجب أن يموت لإنهاء هذه الأزمة، لذلك صار الألم والخوف ظاهرا وواضحا عليه.
لم يكن فيليبس في تلك اللحظات خائفا من القراصنة، وردة فعلهم، بقدر ما كان خائفا من العملية القادمة. حين خرج للقاء زوارق النجاة المرسلة من البحرية الأميركية، قال لهم جملة مشفرة: «هل تعرف عائلتي أين أنا؟ قولوا لهم إنني في المقعد الخامس عشر» يكرر فيليبس هذه الجملة ليتأكد من أن الرسالة وصلت للمارينز، وهي أن يتعرفوا على رقم المقعد الذي يجلس عليه في الزورق المختطف، حتى يتجنبوا إطلاق النار عليه!
تتصاعد الأحداث، ويظل فيليبس يفكر في مصيره، في ظل هذه الإحاطة العسكرية المرعبة، والتي لا يدري كيف ستنتهي، لا أحد يعرف النهاية سوى الله ومن يطلق الأوامر العسكرية من البنتاغون. لا يستسلم فيليبس إلى القدر، ويحاول الهروب إلى سفينة المارينز سباحة، لكنه لا ينجح، يطلق القراصنة النار عليه، يرجع إلى الزروق ويتعرض للانتقام.
بعد استنفاد كل الحيل وكل مخزون الشجاعة النادرة، يظل فيليبس يفكر في النهاية، والتي يحتمل بشكل كبير ألا تكون سوى الموت. فيمن سيفكر الآن؟ لحظة استسلم فيها فيليبس لعواطفه وإيمانه بالحب والحياة، يحاول أن يكتب الرسالة الأخيرة لعائلته «أحبكم، كان يجب أن أكون معكم وليس هنا».
بعد استدراج رئيس القراصنة إلى سفينة المارينز، يحتدم الموقف داخل الزورق المختطف، تراقب الفرقة العسكرية المشهد: لاتزال أهداف القناصة ليست واضحة بدقة، لكن قائد الفرقة العسكرية يصدر أوامره سريعا بتنفيذ العملية.
يدخل فيليبس، الرجل القوي الشجاع المحنك، والذي يفهم عمله جيدا، في حالة من الهستيريا التي يصورها الفيلم كما أنها حقيقة تماما، تقترب مشاعر «توم هانكس» الذي أبدع في تقمصها مما يمكن أن يتصوره أي إنسان لو وقع في مكانه هذه اللحظة الصعبة، لقد كان انفعالا كاملا، بكل تفاصيله العاطفية والنفسية. كان فيليبس يبكي بلا وعي، خوفا من أن ساعة الموت قد باتت قريبة جدا، ولأنه يرى الموت قادما من حليفه لا من عدوه! من الصعب أن تصوّر هذه الحالة بالكلمات، ومن النادر أن تراها حتى في الواقع.
لذلك، فقد كانت محاكاة عجيبة لموقف الاقتراب من الموت، والمصير المجهول، في عرض البحر. وكان الممثل الشهير «توم هانكس» في غاية تألقه وهو ينفذ هذا المشهد، باعتراف جميع النقاد وآلاف المشاهدين الذين تأثروا كثيرا بالفيلم، بخليط من الشعور بالنصر والتعاطف.
رغم أن هذا الصراع النفسي كان مؤثرا وساحرا جدا، وكان يلامس ما فينا تماما. فإنه لم يكن قصة الفيلم الوحيدة، هناك الكثير أيضاً، هناك الحوار بين عالم البؤساء والعالم المتقدم!
ملامح العالم المتقدم
جاء فيليبس من فكرة قائد السفينة المتطورة، التي تنتمي إلى أسطول تجاري واسع يسيطر على جزء كبير من اقتصاد العالم، عبر عملية شحن البضائع. هذا القائد الذي لا يمتلك فقط المهارة الفنية لقيادة السفينة البحرية الضخمة والمحملة بأطنان من البضائع، لكن أيضاً العلم والمعرفة والمهارة اللازمة لإدارة طاقم السفينة، وإدارة أي أزمة قد تواجهها في عرض هذه المحيطات.
فيليبس، الذي يبدو أن شخصيته المهنية والفكرية لعبت دورًا أيضاً في إنقاذ السفينة من يد القراصنة، لم يكتف بمواجهة القراصنة من خلال الإجراءات المتبعة في مثل هذه الحالات، بل استخدم بعض الحيل للتمويه عليهم وتضليلهم. باستخدام الرادار، قام بتغيير صوته ليمثل دور الجهة الأمنية التي يتحدث إليها، وذلك ليسمع القراصنة أن طائرة حربية ما في طريقها إليهم. كان ذلك لأنه لم يجد أي تجاوب من الجهات الأمنية مع موقفه العصيب.
خلال سيطرة القراصنة على السفينة، كان أهم ما حافظ عليه فيليبس هو حياة الطاقم، وألا يكونوا رهائن في أيدي القراصنة. تقدّم هو فقط، ومساعده، بشجاعة لمواجهة مطالب القراصنة، ولم يخضع لكل التهديدات الجدية بقتله وقتل مساعده إذا لم يدل على مكان الطاقم.
كان الهدف ألا تسقط السفينة بالكامل في أيدي القراصنة، وأن يظل هناك طريق لإنقاذها. صرامة فيليبس وذكاء العديد من أفراد طاقمه حوّل مجرى الأحداث، وانتهى الأمر بأن يختطف قائد القراصنة، ويصار إلى اتفاق تبادل بينه وبين فيليبس. وصولًا إلى لحظة فرار القراصنة بزورق نجاة تابع لسفينة ألاباما، مع مبلغ المال المتوافر فيها، سيلاحظ أن طريقة العالم المتقدم في التفكير والتخطيط والمواجهة، لا بد أن تكون مختلفة جدا عن عالم البؤساء والمعدمين. بعد ذلك ستنتقل المواجهة لأن تكون بين القراصنة وحشد كبير من القوى العسكرية التي جاءت للتدخل أخيراً.
هناك، وبخلاف العتاد العسكري والآلات الضخمة في المراقبة وتحليل الموقف، ستستخدم أيضا معلومات المخابرات الأميركية في عملية المواجهة. يمتلك القراصنة فيليبس رهينة، ويمتلك الأميركيون القوة والعلم والتفكير المتقدم.
وعالم البؤساء
«إنكم تستخدمون مياهنا دون أن تدفعوا فلسا واحدا، لم تبقوا لنا حتى سمكا لنصطاده» قائد القراصنة مخاطبا فيليبس. يرد فيليبس «لقد كانت السفينة تحمل طعاماً للمجاعة في الصومال وأفريقيا». في العام 2009، تقتحم مجموعة من المرتزقة قرية صومالية ساحلية، وتثير الرعب في سكانها، مبدية الغضب من عدم إحضار البضائع لرئيسهم المعروف بأنه أحد قادة الحرب في الصومال. لكي يخرج أهل القرية من المأزق ينتخب مجموعة من الشبان للخروج في قوارب بهدف إيجاد باخرة ما واختطافها.
في هذه الأثناء، يكون «الكابتن فيليبس»، على ظهر سفينته «ألاباما» التي تتبع شركة «ميرسك» العالمية للشحن، متجها إلى مومباسا (كينيا)، لتبدأ قصة الصراع أو الحوار بين العالم المتقدم وعالم البؤساء. لم تكن الشجاعة، وإن باتجاه مختلف، حكرا على أشخاص العالم المتقدم. كان رئيس القراصنة شجاعا هو الآخر «الجبان هو دائما من يموت أولا». وعلى رغم كل البؤس والفاقة، كان القرصان قد ترك وراءه حبيبة تنتظره، وقرية تنتظر إنقاذه من بطش أمراء الحرب. الكثيرون لايزالون ينتظرون نجاح مهمته ويعولون عليه.
كان قائد القراصنة ينبّه فيليبس والفرق العسكرية الأميركية دائما، بأنه وفريقه ليسوا من تنظيم «القاعدة»، نحن لسنا إرهابيين، لا نريد أن نؤذي أحدا، إنها معاملة تجارية فقط!
حين يسيطر القراصنة على السفينة، يبلغ رئيسهم فيليبس بأنه أصبح «كابتن» السفينة الآن. تستولي على القرصان مشاعر النصر، لكنه يحاول بذكاء أن يسيطر على الموقف ويكلل عمليته بنجاح كما خطط لها «لا تعبثوا معنا، لا تخدعونا» يكرر دائماً. في حديث له لإحدى الصحف، يقول الكابتن فيليبس إنه يقدّر أن الفيلم أبرز القراصنة كبشر، لأنهم كذلك فعلا، ويؤكد أن علاقة ما نشأت بينه وبينهم بلا شك. «أنا لا أحب الأفلام التي تكون إما أسود وإما أبيض، هناك منطقة رمادية. إنها مثل حياتنا». يرى النقاد أن الفيلم أظهر رئيس القراصنة في صورة معقدة، خارجة عن المعتاد. فقد أعطاه مسحة من الإحساس لا تغطي روح الإجرام فيه، هي بحسب ما وصفوه معادلة خلاقة ومبدعة توازي بين الاثنين.
ينخدع رئيس القراصنة بمحاولات فيليبس للتبرير واستثمار الوقت «هل هذه هي الطريقة التي تقوم بها بأعمال التجارة؟» يأمر بقية القراصنة بعدم إطلاق النار، ويذهب لتفتيش السفينة.
خلال احتجازه من قبل القراصنة، في زورق النجاة، يطلب الكابتن فيليبس أن يساعد في علاج زميلهم الذي جرحت رجلاه بالزجاج، لا ينظر القراصنة باحتقار دائما إلى هؤلاء الأجانب، إنهم في النهاية أبرياء، هناك قصة أكبر جعلت عالمهم في هذه اللحظة في صراع مع عالم هؤلاء المتقدم.
«أنت أصغر من أن تقوم بهذا العمل» يخاطب فيليبس الفتى الجريح «لماذا تضع نفسك في هذا الموقف»، قد يكون من الصعب على شخص من العالم المتقدم أن يفهم بشكل كامل ماذا يعني البؤس، لكن موقف فيليبس جعله يقترب كثيرا من أن يفهم كيف يعيش هؤلاء وكيف ينظرون للحياة. حين يطلب فيليبس من القراصنة الاستسلام، لأنه لا فائدة من المقاومة، يرد عليه رئيسهم «لقد فات الوقت، لم يعد هناك مجال للتراجع»! «لا بد أن هناك عملاً ما، غير أن تكون قرصاناًُ أو أن تخطف الناس» يوجه الكابتن فيليبس كلامه لرئيس القراصنة، الذي يرد بنبرة عالم البؤساء: «ربما في أميركا، ربما في أميركا».
العدد 4081 - الجمعة 08 نوفمبر 2013م الموافق 04 محرم 1435هـ