العدد 4081 - الجمعة 08 نوفمبر 2013م الموافق 04 محرم 1435هـ

منعطفات «قم» المقدسة

كانت (قم) خياراً من خيارات دراستي العليا في التسعينات، لكن رياح سفينتي الفكرية أخذني إلى مكان آخر، مع ذلك بقيت هذه المدينة، في مخيلتي، منذ كنت في المرحلة الثانوية، زرتها في مطلع التسعينات وفي مطلع الألفية الجديدة. في الزيارة الأولى كانت علاقتي بها حميمية، وتمثل جهة من جهات أفقي الذي كنت ذاهباً إليه، وفي المرة الثانية، كانت مدينة عابرة، وهذه الزيارة الثالثة، وجدت نفسي شغوفاً أكثر باكتشاف «عش آل محمد» كما يطلق عليها. اكتشاف تياراتها الفكرية وحوزاتها العلمية وحركتها التي تعود إلى عام 909 هجرية حين استقر فيها مجموعة من علماء الشيعة، مع الأسف لم يكن الوقت كافياً لاكتشاف عمق ما يحدث في هذه المدينة، قضيت فيها 48 ساعة، مليئة باللقاءات والزيارات.

كوجة 12

(كوجة) تطلق على الطريق المتفرع من الشارع العام، والعناوين منتظمة في إيران وفق نظام الشارع العام ثم (الكوجة) ثم رقم المنزل. (كوجة 12) تتفرع عن شارع (سمية). في منعطف هذه الكوجة تقع حوزة (الأطهار التخصصية) التي أسسها الشيخ حبيب الكاظمي في 2005 للطلاب الخليجيين.

في لحظة انتظار مدير «حوزة الأطهار التخصصية» في مكتب السكرتير، وقعت عيني على مجلة (مدرسة أهل البيت). أثارني الفضول لأتصفحها من غير استئذان، كنت مدفوعاً بمعرفة ما يشغل خطاب من يمثلون الحوزة اليوم. كان فاقعاً موقف المجلة المعادي للفلسفة والتصوف والعرفان، كأنها تستعيد معارك الدولة الصفوية في عصر ملا صدرا بين الفلاسفة والفقهاء الأخباريين والأصوليين والمتصوفة، أو بين البرانيين (الفقهاء) والجوانيين (الفلاسفة والمتصوفة) حسب تعبير الباحث الفرنسي كولن تينر في كتابه «التشيع والتحول في العصر الصفوي».

تعرف المجلة نفسها «المجلة تنشر المقالات التي تهتم بنقد الفلسفة والعرفان لأي شخص كانت لغرض الدفاع عن الحق». عنوان افتتاحيتها (الله أكبر) وتستشهد ببيت في التعريض بملا صدرا وابن عربي «أليس جرأة على الله الأحد قول ملا صدرا وابن عرب».

وتنشر المجلة على حلقات كتاب «رسالة الاثني عشرية في الرد على الصوفية و(العرفاء)» للشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي.

ويضم العدد بحثاً طريفاً عنوانه: «الإسفار عن نصوص الأسفار» لحجة الإسلام والمسلمين الشيخ حيدر الوكيل. وهو يبحث الروايات التي نقلها ملا صدرا لمعرفة قيمتها وإمكان الاعتماد عليها. يصدر الباحث دراسته بجملة عدائية «تدعي فلسفة ملا صدرا واللاهثون وراءها أن من ميزاتها الجمع بين البرهان والعرفان والقرآن يعنون به النص الديني».

كانت الدقائق التي قضيتها في تصفح المجلة، قبل الالتقاء بمدير الحوزة، قد تركت لديّ انطباعاً منقبضاً، حول طبيعة الجو الفكري في الحوزة، وتخيلت وكأن هناك حرباً ثقافية ضد الفلسفة والتصوف، لكني عرفت لاحقاً أن المجلة ليست من إصدارات حوزة الأطهار، وأن الحوزة تصدر مجلة فصلية طلابية تحت عنوان (رسالة القلم).

بدا مدير الحوزة الشيخ عبدالله الدقاق مرحباً ودوداً، لم تكن المسبقات الذهنية التي نحملها عن بعضنا سوى مادة لتطرية الحديث، تجاوزتها بسرعة، وذلك بفضل سعة أخلاق الشيخ، أقول ذلك لأني كنت مسبوقاً بما يشبه التحذير أو التنبيه إلى أن زيارتي إلى (قم) ربما لا يكون مرحباً بها أو تثير هواجس بعض المشتغلين في حقلها الديني والعلمي، وذلك خوفاً من استغلال الزيارة للكتابة بنفس نقدي متحامل أو حاد، أو بتعبير أكثر وضوحاً، كان الخوف من استغلالي الزيارة للكتابة المسيئة للحوزة ورجالاتها ومنهجها.

بدا حديث الشيخ متحرراً من هذه الهواجس التي كنت أحملها أو التي حُمّلتها، والتي اضطرتني إلى أن ألجأ إلى صديق كطرف وسيط يزكي زيارتي. كنت في دور المستمع المصغي، اكتفيت بتوضيح هدف زيارتي أنها تأتي على هامش مرافقة والدتي في رحلة علاجها، وأني أود التعرف عن قرب على أجواء الحوزة والجامعات الإيرانية.

تحدث الشيخ بإلمام كبير عن الجامعات الإيرانية ومستوياتها، وطبيعة طلابها. ففي إيران هناك جامعات ذات طبيعة خاصة، كجامعة الإمام الصادق التي تغذي الدولة بكوادر سياسية ودبلوماسية، ولا يقبل في هذه الجامعة إلا أصحاب المعدلات المرتفعة. وجامعة المصطفى العالمية التي هي جامعة أم عربية في إيران لمجموعة كبيرة من الجامعات والحوازات والمداراس، تتوزع في أكثر من 30 دولة وبمختلف اللغات.

تحدث الشيخ عن دراسته حالياً للدكتوراه في جامعة طهران، توقفنا عند مقررات التأويل والفلسفة والتصوف وأساتذتها البارزين كمهدي ذاكري ويحيى كبير وحسن الرمضاني، كان الشيخ يعرف أن هذه هي المنطقة المشتركة التي يمكن أن تثير اهتمامي، بفضل خضوع (حوزة الأطهار التخصصية) لنظام جامعة المصطفى، فإنها قد بدت أكاديمية متخصصة في الفقه وأصوله، شديدة التنظيم، والتشدد في نظامها الأكاديمي، لا شيء متروك للطالب كما هو الأمر في الحوزات التقليدية حيث كل شيء متروك للطالب. هناك نظام القبول والتسجيل ووحدات أكاديمية موزعة على سنوات خمس في مستوى البكالوريوس أو مرحلة المقدمات. وهناك نظام الحضور والغياب ونظام المعدل الأكاديمي الذي يجب ألا يقل عن 80 في المئة.

حوزة الأطهار التخصصية، مخصصة للطلبة الخليجيين الذي يرغبون في أن يكونوا علماء دين متخصصين في الفقه وأصول الفقه، وهذا التخصص ربما يكون هو الأقرب لمزاج عالم الدين البحريني. تاريخياً شكَّل تخصص الفقه بالنسبة لعالم الدين الأخباري والأصولي، المادة التي يجد رسالته تكمن في إتقانها. فمهمته هو تفقيه الناس في دينهم أي في أحكام نصوص الأحاديث والقرآن من حيث واجباتهم من الحلال والحرام.

الطريق إلى الله يكمن في معرفة هذه الواجبات، والتخصص في الأصول والفقه، يكاد يكون في ممارسته العملية، هو البقاء في حكم النص من دون العيش في أفقه. فليس من مهمة علم الأصول فتح أفق النص، بقدر ما تكمن مهمته في استنباط الحكم الشرعي. ربما يكون هذا ما تفقده الدراسات الحوزوية التي طورت من إجراءاتها التنظيمية نحو مزيد من الدقة والمتابعة لكنها لم تطور مقاربات فهم جديدة لنصوص الدين. ولا تطرح أسئلة جديدة، ولا تستعين بعلوم حديثة.

العدد 4081 - الجمعة 08 نوفمبر 2013م الموافق 04 محرم 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً