العدد 4080 - الخميس 07 نوفمبر 2013م الموافق 03 محرم 1435هـ

الحب بين العاطفي والحواس

عدنان الموسوي comments [at] alwasatnews.com

صحافي بحريني

دعاني صديقنا أبوهشام لحضور حفل زفاف إحدى كريمات الأسر الراقية في دبي ولكنني تأخرت عن موعد اقلاع الطائرة فلم أكن بصحبته. وعندما حاورته في اليوم التالي، حيث سألته: أرجو أن تكون قد قضيت وقتاً ممتعاً؟. فأجاب: لقد سميته بالثلاثي المرح. قلت: لم؟ قال: لقد أمتعت فيه ثلاثاً من الحواس. قلت: وكيف ذلك؟ قال: اسمع، عندما نادوا للعشاء توجهت للباحة الخلفية للفندق وقد فاجأني الطهاة هناك وهم يتفننون في شوي السمك على الفحم، لا أخفي عليك، لقد جلست في زاوية بعيداً عن صخب المدعويين، حيث كان يقوم على خدمتي اثنان من الطهاة، تارة بمشوي الجنم والميد، وتارة بالرز الشيلاني. لقد عشت ساعة أو دونها في نشوة لا توصف فقد كانت حشوة السمك من اللذة والنكهة بحيث طغت على كل الأطباق، أما وقد لازمه الرز الشيلاني والمخللات فقد جاوز حدود الوصف.

إذاً هكذا كان الأمر. قال: ولكن لم تسألني عن الثانية؟ هل تعرف معنى الشبع الجميل وأنت تشاهد وتسمع أجمل الألحان؟ نعم لقد أمتعتنا المطربة ديانا حداد بصوتها الجبلي الرخيم حتى أحسست أنني أطوف بإحدى جنات الخلد ولم أعِ أن الاستماع والتواصل مع المطرب بهذا القرب له مثل هذه النكهة. لسنوات كنت من المعجبين بصوت هذه المطربة اليافعة ولكن لم يدر بخلدي أبداً أنها ستحلق بنا فوق السحاب.

على هذا النحو الذي تصف يبدو أنك كنت من المرضيين عنك في تلك الليلة؟ قال: لا أبالغ لو قلت إن بدلة الرقص الشرقي هي من أعظم الفنون لولا أنها لصيقة بالرقص لكان لها شأن آخر في محافل الخياطة والتطريز. أتعرف إن كل بدلة لها لمستها الخاصة وانعكاسها اللوني مع الأضواء بألوانها المختلفة أياً كان موقع الضوء قرباً أو بعداً.

كل ذلك الوصف الجميل للرز الشيلاني مع طازج السمك والآخر لحضور حفل موسيقي وثالثها لمشاهدة الرقص، وغيرهم من متع الحواس الأخرى، تدفعنا للتساؤل ما سر هذا الركض والبحث عن المتعة أو كم يحلو للفلاسفة أن يسموها باصطياد الأهداف؟ إنها السعادة، أجل أنها تلك الحالة اللحظية جداً والتي تقع بين النقلتين من هدف لآخر أو ذهنياً من فكرة إلى أخرى حيث نُقذف بدون وعي إلى طبيعتنا الحقيقية ونشعر بالسعادة. هذا الجري وراء الأهداف هو سر تمسكنا بالحياة وخوفنا من الموت، فعند الموت لن نعرف جمال ذلك الشعور ولكن عند النظر إلى السعادة على اختلاف ألوانها من مشاهد بصرية أو سمعية أو حسية أو غيرها نتبين للأسف أننا مازلنا نقف عند أبجديات هذه الأمور. فلو تأملنا جيداً سوف نرى أن أعضاء الحواس هذه ليست قائمة بذاتها وأنها في نهاية المطاف ليست سوى أدوات تبلغ رسائلها أياً كان موقعها من الواقع الطبيعي الُمعاش (حقل المكان) إلى حيز أصغر هو العقل، الفكرة ومن ثم إلى بحر (المطلق العظيم) غير المشخص أو كما أشار إليه الإمام علي (ع) (وفيك انطوى العالم الأكبر)، حيث نستشعر اللذة أو المتعة، سمها ما شئت أعني (السعادة) وهذا يعني أنه في غياب المطلق العظيم لا وجود لتلك المتلقيات، ولكن لو استدركنا قليلاً وسألنا أنفسنا ما هذه المتلقيات؟ أليست الدنيا بكل جمالياتها؟ أليست الكون بكل ما فيه؟

إذاً ففي غيابه (المطلق) ويحصل ذلك مظهرياً فقط في حالة الغيبوبة وحالات (بنج) التخدير الكامل تعتبر الدنيا غير موجودة مع العلم (أن المطلق قائم بذاته ولا يدرك بالحواس القاصرة والعقل ولا يعتمد على وعي الإنسان به من عدمه أعني حالات الغيبوبة)، وإذا أوغلنا في العمق سنرى أن كل المتلقيات أو الإسقاطات بأنواعها المختلفة هي واحدة في المحصلة النهائية، أعني السعادة المنشودة وهي القاسم المشترك لكل تلك المتلقيات والهدف الأساسي منها، وهذا يعني بطريقة غير مباشرة وفي كل الأحوال من بصرية وحسية، وسمعية، وفكرية إلخ... هي أيضاً واحدة وأن الفارق الوحيد هو الوسيلة بمعنى أبسط أنها خمسة روافد تصب في بحر (المطلق العظيم) مروراً بالعقل.

إذاً الاختلاف فقط هو في زوايا النظر إليها، وإذا اجتمعنا على الهدف تصبح الوسيلة ثانوية أو شكلية، ولكننا في الغالب وعن دون وعي ننساق إلى الاعتقاد بأن السعادة تأتي من الوسيلة ومن الأشياء الدنيوية المادية (المستقبلة) عن طريق الحواس.

أفبعد أن أدركنا إن المحيط (المطلق العظيم) هو المنتهى الذي تغرب فيه كل الأحاسيس والأفكار والمتلقيات، هل من مجال للشك أو الاعتقاد بأن السعادة تقع خارجه؟ وقد أثبتنا ذلك مظهرياً في حالة الغيبوبة والتخدير؟ أما الجميل في الأمر فقد رأينا الوصف في مشوي السمك وبالمثل في الراقصة كهرمان وفي سماع أغاني الفنانة ديانا يبدأ بكلمة (أحب)... إذاً نحن أمام مغالطة أخرى غير مقصودة... فبسبب حساسية العلاقة العاطفية بين الرجل والمرأة اختار الخلق في مسمياتها على مدى الأزمان والعصور بدءاً من العشق والغرام وانتهائها بالهيام. ثم اتفقوا على إعطائها اسماً قريب من نسيج المشاعر فسموه (الحب)، ولكن الحب هنا ولخصوصية العلاقة العاطفية من ناحية وللتشديد والتذكير وخوفاً من الوقوع في زلات الاستخدام الخاطئ اختزلت هذه الكلمة وارتسمت في الوجدان على أنها (الحب العاطفي) في أعلى مراتبه ونسينا رغم إننا مازلنا نكرر بدون وعي هذه الكلمة التي تعني الرغبة في شيء ما مستدرك من حواسنا الخمسة، أعني أن الحب يعني حب الأكل، وحب سماع الموسيقى، وحب مشاهدة الرقص، وحب سماع الغناء، وحب الاستمتاع بدفء الفراش في الشتاء وحب رائحة وردة ملكة الليل.

أحيانا أتساءل ما الذي أوصلنا إلى هذه النتيجة؟ هل هي قدسية الحب العاطفي بحيث وضعت في أعلى السلم العاطفي؟ فعلى الرغم من تكرارنا القول أحب كذا وكذا درجت عقولنا على أن ما تُحب من أمور أخرى هي في أسفل السلم العاطفي وقطعاً اللغوي، ويبدو أن العاطفة لا المعنى الحقيقي هي التي اختزلت الحب في ذلك الإطار، فضاع المعنى الحقيقي للحب في أمور كثيرة نعيشها لحظة بلحظة كل يوم في حياتنا وضاعت معه للأسف مواضع الحب من متلقيات الحواس الأخرى من عبق وردة ملكة الليل وتغريد العندليب وغيرها. بل إننا وبدون وعي وظفنا كل حواسنا من شم وسمع وغيرها في خدمة (الحب العاطفي) فنقول حبيبتي مخملية الملمس أو على رأي إخواننا المصرين البنت دي فراولة، وأغنية ناظم الغزالي في قوله: الرقبة مرمر.

أما المطرب الإماراتي فقد وظف جميع أعضاء الحواس بدون استثناء في أغنيته المشهورة خمس الحواس سائلني عنك، وبدون أن يوغل في التفاصيل أراد أن يقول إن حب الحواس يتقدم على العاطفي حيث يمهد له الطريق فهو الذي يدشن البناء العاطفي ثم يسبغ عليه كل أشكال الجماليات والديكور المنتقاة من حلل جميلة وأبيات شعرية وأدبيات وغيرها إذاً فالعاطفي وليد حب الحواس وليس بمنأى عنه بل هو قرينه وملازم له في كل خطوة، فلم نسمع بشاعر أو محب يتغنى في محبوبه غير مشخصة أو دون إن يشير إلى طولها الممشوق أو شعرها الأسود المرسل، أو لمسة يد أو همسة، أما اقتران العاطفي بالغيرة فقد جاء من منحى حب الامتلاك والتفرد بالحبيب حتى صارت الغيرة عرفاً وشرعاً في عالم المحبين إلا أن الحقيقيين منهم والذين ترفعوا عن الأنانية أدركوا أن الحب العاطفي يبقى متوهجاً حتى إذا استحال المراد واكتفوا بأن يعيشوا الحب غير المشروط بالاقتران ولنا في التاريخ أمثلة شاهدة على ذلك.

ولكن رغم اقتسام حب الحواس والعاطفي ثنائية حرفية (حب) إلا أن الأخير ألقى بظلال كثيفة على الأول فلم تستطع الحواس مزاحمة العاطفي حتى في مهرجان الأطباق الرمضانية ودفء الفراش. إلى أن هذين الأحساسين المتلازمين والمشرقين من واحة الحواس سرعان ما يغربان في بحر المطلق العظيم، شأنهما شأن المتلقيات المستمرة والمتوالية في كل لحظة من حياتنا. وهذة هي أعظم الميزات التى خص الله بها الإنسان ووضعته بحق في أعلى مراتب الخلق حتى استحق بجدارة لقب خليفة الله في الأرض، تلك هي الحقيقة.

إقرأ أيضا لـ "عدنان الموسوي"

العدد 4080 - الخميس 07 نوفمبر 2013م الموافق 03 محرم 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً