الشعراء، إذا أرادوا أن يُعبِّروا عما في دواخلهم لجأوا إلى القريض. والكُتَّاب والأدباء، إن راموا حديثاً دوَّنوه نثراً. ومَنْ لم يكن شاعراً ولا كاتباً من القوم، لَقْلَقَ بلسانه في المجالس والنوادي تعبيراً عمّا بداخله. حتى البُكْم من الناس، ممن أخرَس المرض نطقهم، يُعبِّرون عمّا يختلج في أذهانهم وقلوبهم بالإشارة، فيُشَوِّرون بأيديهم يميناً وشمالاً محاكاة لمنطق داخلهم، وما يريدون قوله.
وربما رأينا في مسيرة حياتنا، أنَّ مَنْ عجزوا عن قول الشعر، وكتابة النثر، ولَقْلَقَة اللسان، وتحريك الأيدي، لجأوا لعيونهم كي تذرف دمعاً، ليُعبِّروا من خلاله عن أنقى وأعذب وأحرِّ وأشفّ وأصدق المشاعر الإنسانية المتدفقة، التي ينفثها المكلومون والبؤساء. ولأنها كذلك، فقد وُظِّفَ الشعر والنثر والخطاب، لتضميد جراح، ألهبتها مياه العين، من أدمعٍ فياضة لا تنضب. وبالتالي، صارت الدمعة هي الملهِمَة للشعراء وأصحاب النثر كي يقولوا ما يقولونه من هَسْهَسَات جيَّاشة.
وقد أثبت الأدب الإنساني في تدويناته، أن الدَّمعة ليست كأي شيء تفرزه المشاعر، بل اعتُبِرَت ذروة التأثر العاطفي الحاد، لذا، تندَّر بها تراث البشرية منذ القِدَم، واحترم قدسيتها، وألصِقَت نعوتٌ بأصحابها، ممن أكثروا فيها، كما في حالة الحُسَين بن زيد بن علي، حين سُمِّي بـ «ذي الدَّمعة»، «لكثرة دَمْعِه» على النار والسَّهْمَيْن «اللذين أَصابا زيد بن علي ويحيى بن زيد في خراسان».
وربما مِن المفيد هنا أن نعلم، بأن دراسات التشريح والطب، قد بيَّنت لنا بأن دمعة الإنسان، لا تسقط إلاَّ بعد مرورها بسبع مراتب، من الغدد وقنوات ونقاط وأكياس، فضلاً عن مكوّناتها من زيوت ولاكتوفيرين ولاكريتين وخلافها، في تدليل على حرارتها حين تسقط على الخدَّيْن.
مدعاة هذا القول كله، هو أنني وقبل أسبوعين من الآن، كَتَبتُ مقالة في هذه الصفحة، عن «تأتَأة التفكير»، ودفاع البعض «عن القضايا الخاسرة، عبر أقلام مكسورة، لا تكتب إلاَّ الممجوج من الكَلِم، وأفواه مأجورة لا تنطق إلاَّ بالشتيمة والسباب، وتجزئة المجموع الملتئِم». في ذلك اليوم، بادرني أحد الأساتذة الكبار في العلم والأخلاق، بقوله لي: «دعني أضِيف لك – على ما ذكرت في المقالة - تأتَأة الضمير». وقد أصاب أستاذنا فعلاً فيما ذهَبَ إليه: تأتَأة الضمير وما أدراك.
مُتأتئو الضمير الميِّت، في ساعتنا هذه لا عَدَّ لهم ولا حَصْر. فقد أعيتهم الأنانية وحب الذات، عن إدراك أي شيء آخر. ففي هذا الزمن المر، الذي كَثُرَت فيه الأدمُع، والعيون الدَّمُوعة، كم رأينا قَهْقَهَات عديمي الضمير، تُطلَق في وجه المفجوعين في أفلاذ أكبادهم. وكم رأينا الصَّفِير والفرح وتضاحك أصحاب تلك الضمائر المتعفنة، تُطلق خلف جنازات الموتى، من الشباب والأطفال والنساء.
وكم رأينا تلك الضمائر السوداء، وهي تطحن جماجم البشر بفوهات البنادق وأعقابها، وتعذبهم في السجون المظلمة بالسياط والقيود، وتتفنن في إيذائهم دون خَجَل ولا رحمة! وكم رأينا أصحاب تلك الضمائر الجاحدة، وهي لا تكتفي فقط بالسخرية من الموتى، بل بالهُزُئ حتى من آهات الأمهات الثكلى، وهي تتلوَّى على أكفان أحبابها الراحلين، المخضَّبَة بالدماء الطاهرة!
كم رأينا ضمائر كاذبة، تناغي الهِرَّ وتنهى عن حبسه كي لا يدخل فاعله النار، لكنها لا تتورَّع عن إيذاء من تكرهه في دينه ومذهبه وعرقه وانتمائه من البشر والآدميين! وكم رأينا ضمائر نيرونيّة قاسية، لا ترى في المرأة ضعفها، ولا في الطفل براءته، ولا في الرجل كهولته، ولا في الميت حرمته، ولا في الإسلام أخوته، ولا في الخلق نظيريته! وكأنها مَسْخٌ ليس له وصف ولا شكل.
لا تستنكروا على الإسرائيليين إن خرجوا احتجاجاً على إطلاق حكومة نتنياهو سجناء فلسطينيين ضمن صفقة مع السلطة الفلسطينية في رام الله، مُدَّعين أن أولئك السجناء مذنبون وأيديهم «ملطخة بالدماء» ويجب أن يفنوا بقية شبابهم في السجون! أنتم أيضاً عندكم نفس الشعور، ولديكم نفس السلوك، وربما أنتم أكثر قسوة منهم، لأنكم تمارسون حقدكم على عرب (بشتى دياناتهم) ومسلمين مثلكم، وهنا الحالة أكثر ألماً.
إذا كانت قلوب أولئك الأشرار، تعجز عن استشعار تلك الآلام التي تهدّ الجبال، فلأيِّ شيء سَتَرق إذاً ما دامت الذروة في التمحيص (أو قليلها) لم تنفع معهم؟ إنها قسوة من نوع خاص. نحن نتساءل ونقول لأولئك: لا تعتبروا ضحاياكم من المسلمين، ولا تعتبروهم من العرب، بل ولا تعتبروهم من البشر حتى، لكن، قولوا إنهم حيوانات إن أجَزتم لأنفسكم ذلك، أفلم يُنهَى عن المُثلَة، ويُؤمَر بالرحمة معهم على أقل تقدير؟
كان الفلاسفة يقولون ويُعرِّفون الضمير (كما جاء في الموسوعة) على أنه «مُركَّب من الخبرات العاطفية القائمة على أساس فهم الإنسان للمسئولية الأخلاقية لسلوكه في المجتمع، وتقدير الفرد الخاص لأفعاله وسلوكه، مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالواجب». لكن أين أولئك من كل تلك اللوازم؟ عندما يغيب الإحساس عن المرء، ولا تجدي معه وَخَزَات التأنيب، فإنه يصبح أقسى من الصخر.
هنا، وقبل نقطة الختام، أذكر شيئاً وَرَدَ في كتب التراث، يتناسب ومسألة القسوة وغياب الضمير. أذكرها لا للتعجُّب منها، بل لإدراك أن في عصرنا أمثالها كثير وشبيه. الرواية تقول: أرادَ المنصور التخلُّصَ من عمِّه عبد الله بن علي، وهو معتقلٌ عنده، فأوعَزَ إلى أحدِ أتباعِهِ أن يُدَبِّرَ طريقة لذلك. فدَخَلَ «الجلاد» على عبد الله ومعه جارية، فبَدَأ بِهِ وخَنَقَهُ حتى ماتَ والجاريةُ تنظر. ثم مَدَّه على الفراش. ثم أخَذَ الجاريةَ ليخنقها فقالت: يا عبد الله .. قَتْلَةٌ غير هذه!
فكان هذا الجلادُ يقول: ما رَحَمْتُ أحداً قَتَلتُه غيرها، فَصَرَفتُ وجهي عنها وأمَرتُ بها فَخُنِقَت، ووضعتها معه تحتَ الفراش، وأدْخَلتُ يدها تحتَ جَنْبِهِ ويَدَهُ تحتَ جَنْبِها كالمُعتَنِقَيْن، ثم أمرتُ بالبيتِ فهُدِمَ عليهما. ثم أحضَرنَا القاضي ابن علام وغيره فنَظَروا إلى عبدالله والجارية مُعتَنِقَيْن على تلك الحالة ليشهدوا أنهما ماتا تحت أنقاض الدار عندما كانا مُتَضَاجِعَيْن.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4079 - الأربعاء 06 نوفمبر 2013م الموافق 02 محرم 1435هـ
نموذج
تذكروا قسوة الضمير التي تجلت في سنة 61 للهجرة لتعرفوا ما يجري اليوم