حين أطلق الصحافي الأميركي الشهير توماس فريدمان «الربيع» على الحراكات التي شهدتها الدول العربية مطلع العام 2011، تلقفت وسائل الإعلام ومعها النخبة العربية التسمية بكثير من الحماس والاندفاعية، لكن بعد عامين من التطورات الطارئة والدراماتيكية في بعض الأحيان، عادت العديد من التحليلات إلى الوقوف عند مآلات وخطورة المسارات التي تسلكها عدد من المجتمعات العربية.
يسجل الملاحظ للواقع العربي الذي أفرزته التطورات الطارئة لما سمي تيمناً بالربيع العربي، بروز فاعلين اجتماعيين أساسيين يقودان حركية التغيير في هذه المجتمعات. يتمثل الفاعل الأول في الحركات الإسلامية بمختلف تلويناتها وفروعها وأشكالها. أما الفاعل الثاني المنافس فهو المؤسسة العسكرية، ليس كمجرد جيوش منظمة ولكن باعتبارها أولاً بنيات ذهنية مترسّخة، وباعتبارها ثانياً بنيات متغلغلة في الاقتصاد وفي النسيج الاجتماعي للمجتمعات العربية.
صحيح أن الحركات الإسلامية ثابت جوهري طبع حياة المجتمعات العربية منذ على الأقل ما يزيد من قرن من الزمان مع تأسيس ما يسمى بالإسلام السياسي بداية القرن العشرين، كما أن «العسكراتية» هيمنت على الشعوب العربية منذ فترة الاستقلال عن طريق وصول العسكر إلى حكم عدد من البلدان من السودان إلى العراق فسورية وليبيا والجزائر وغيرها، عبر سلسلة من الانقلابات شهدت أوجها في سبعينيات القرن الماضي.
غير أن أجواء التأزم المتفاقم في بلدان «الربيع العربي» تفرض تسليط الضوء على هذين الفاعلين بعدما اتجه الصراع المجتمعي إلى انحسار بينهما كفرز شبه نهائي طفا إلى السطح منذ أشعل البوعزيزي النار في نفسه مطلع العام 2011. فيما توارت بقية الحساسيات الاجتماعية (من ليبراليين ويساريين وعلمانيين وحداثيين) إلى الخلف مكتفية في غالب الأحيان بمساندة هذا الطرف أو التحالف مع آخر دون أن تكون قادرةً على فرض وجودها على حركية التغيير الناشئة. وهكذا تحالفت الأطراف المحسوبة على التيار الحداثي في مصر بكل تلويناتها مع الإخوان فسقط مبارك، وتحالفت القوى ذاتها مع العسكر في ثلاثين يونيو لإسقاط الإخوان، وهكذا تدور الدوائر.
نتيجة الواقع الجديد الذي أفرزته حركية التغيير العربي، يذهب الكثير من المحللين إلى اعتبار أن أهداف «الربيع» اصطدمت بعقبتين أساسيتين: العسكراتية من جهة وحركات الإسلام السياسي من جهة ثانية. تنبع قوة هذين الفاعلين في كونهما الأكثر تنظيماً، والأكثر قابليةً لإدارة دفة الأمور لصالحهم باحترافية بالغة، نظراً لتمرسهم الطويل بالصراع والذي وصل في بعض الحالات إلى استعمال السلاح. هذا التمرس بالصراع سواءً السياسي أو المعتمد على قوة السلاح يجعلهما قادرين، كلما استدعى الأمر، على اللجوء إلى لعبة إخراس صوت الآخر المختلف، وعدم التواني في إطلاق الرشاش اعتماداً على قانون التصفية الكاملة للخصوم بمنطق «معي» أو «ضدي».
صحيح أن العسكر والحركات الإسلامية يتناقضان بشكل كبير في الرؤى والتصورات، لكنهما يشتركان في شيء واحد: كلاهما لا يؤمن بأن الفرد كائن حر، وأن أساس المجتمع هو البناء المؤسساتي الذي يجب أن يوفّق بين حرية الأفراد والجماعات لا كأفراد فقط بل كمواطنين. وتشكّل التجربة المصرية خير نموذج على هذا التطاحن الشرس بين المكونين. فأمام فشل الإخوان المسلمين في إدارة الشئون الحياتية وتدبير الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، ظلّت النخبة العسكرية تطلّ من أعلى أجهزتها وأصابعها على الزناد لإطلاق رصاصة الرحمة على تجربة الحكم المدني في مصر، وهو ما تحقّق لها في الثلاثين من يونيو.
ينبغي النظر إلى تجربة التطاحن الشرس التي تدور رحاها في مصر بين الإسلاميين من جهة والعسكر من جهة ثانية، انطلاقاً من ثلاث زوايا: إن حركة الإخوان المسلمين هي النواة الأكثر صلابة في مشروع أسلمة العالم العربي ووصولها إلى السلطة في مصر شكّل بالنسبة للحركات الإسلامية العربية فاتحة أولى في مخطط متكامل. وينبغي ثانياً أن نعتبر أن الجواب الذي قدّمه الجيش المصري في الثلاثين من يونيو هو مثالٌ على سلوك المؤسسات العسكرية في العالم العربي، وهو سلوكٌ يمكن أن تستعيده باقي المؤسسات العسكرية في عددٍ من البلدان مع اختلاف الخصوصيات والحيثيات. ثالثاً وأخيراً ينبغي أن ننظر إلى اقتصار الصراع على هذين المكوّنين كعلامة على الغياب شبه التام للقوى الحداثية عن الواقع السياسي والاجتماعي للمجتمعات العربية.
مشكلة الشعوب العربية إذن في الوقت الراهن وقوعها بين كماشتين متعاديتين: التوجه العسكراتي من جهة، والتوجه الأصولي في أكثر صيغه إطلاقيةً من جهة ثانية. غير أن المشكلة الأكبر تتمثل في اشتراك المكوّنين في نفس منطق الفعل الاجتماعي والسياسي. كلاهما ينظر إلى سلوكه بنوع من الإطلاقية وبدون قدر معين من التنسيبية. وبمعنى آخر، إن العسكر كما الحركات الإسلامية تمتح من المعين الإيدلوجي نفسه. ونعني بالإيدلوجيا هنا تلك الأفكار الإطلاقية التي تدعي القدرة على تحقيق الخلاص. إن المتابع لتصريحات قائد الجيش المصري كما قادة الإخوان المسلمين، يكتشف بسهولة أن خطابهما يبشر بالخلاص التام سواءً على الصعيد الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي.
في حوار عابر كنت قد أجريته مع الرئيس البرتغالي الأسبق ماريو سواريش حول التجربة البرتغالية في الانتقال من الحكم العسكري الشامل إلى الديمقراطية التعددية، اعتبر مهندس ثورة القرنفل أن الرهان كان هو ابتكار صيغ من التسويات التوافقية التي زاوجت بين مبدأين أساسيين: تأمين الاستقرار السياسي من جهة وتطبيع الحالة التعددية من جهة ثانية.
يغيب هذا المبدآن في مصر، كما في ليبيا وسورية وغيرها من البلدان التي شهدت حراكات، بينما يتكلم صوت المدفع للإعلان عن إقصاء الخصوم ووضع المجتمع أمام اختيار إما «نحن» أو الفوضى. وهكذا استخدمت الحركات الإسلامية الدين كسلاح سياسي لتحقيق انتشارها الواسع حينما كانت في المعارضة، وقدمت نفسها المنافحة الوحيدة عن قيم الهوية والأصالة، وحين وصلت إلى دفة الحكم، عادت إلى التقاليد والتراث والدين، لتقوم بالفعل ذاته لكن هذه المرة لتتخذ منه ملجأً للاحتماء من عدم قدرتها على الاستجابة لمطالب مختلف الفئات والطوائف المهمشة والتي اكتشفت زيف العديد من الادعاءات.
لا تختلف تجربة العسكر في العالم العربي عن تجربة حركات الإسلام السياسي سواءً من حيث تبرير الاستبداد أو تبرير الإخفاقات والهزائم السياسية والاجتماعية والثقافية. لقد أثبتت تجربة الشعوب العربية أن الأنظمة العسكرية تنتهي بتأسيس دولة الاستبداد كلما دخل أصحاب الياقات والنياشين على خط الممارسة السياسية. والنخبة السياسية والاقتصادية التي حكمت العالم العربي والبلدان النامية بعد الاستقلال خير دليل على ذلك. بعد الاستقلال صادر العسكر في عدد من البلدان العربية الحكم باسم التحديث والعلمانية، والتقدم والرخاء الاقتصادي. وبعد مدةٍ قصيرةٍ من فشل ضمان تحقيق هذه الشعارات، وجدت هذه النخب نفسها مجبرةً على استخدام شعارات الإيدولوجيا القوموية البالية والكليشيهات الجامدة للهوية.
إن التشظّي الذي تعيشه المجتمعات العربية في الوقت الراهن ناتجٌ بالدرجة الأولى عن فشلها في تحقيق رهان أساسي: يتعلق الأمر بكيفية تحقيق معادلة الحرية والاستقرار. وما تشهده الساحة المصرية من استقطاب حاد وعنف متصاعد طرفاه المؤسسة العسكرية من جهة وجماعة الإخوان المسلمين، يُبين بوضوح أنه ليس بمستطاع أي طرف حسم معضلة شرعية الحكم وتأسيس نسق سياسي على قواعد متينة اعتماداً على الإقصاء.
تاريخيا، انتشرت الحركات الإسلامية في العالم العربي الإسلامي نتيجة واقع سياسي واقتصادي واجتماعي معقد، ويتسم بالخصوص بإحباط رافق الفشل في تحقق ذات حضارية متأزمة، وبالتالي شكلت العودة إلى الدين حاجة نفسية واجتماعية مصحوبة بجو من الفقر وعدم الأمان. وهذا هو أحد الأسباب التي شجّعت على انتشار الحركات الإسلامية، فالتربة صالحةٌ ومهيّأةٌ لها تماماً. ولكن هذه العودة التي تتم في جو ثقافي متدهور ومفتقر تعني المزيد من الاستلاب الجماعي والقليل من الحرية.
لكن هذا الوضع الثقافي والسياسي المشحون الذي أوصل الحركات الإسلامية إلى سدة الحكم، وينبئ بفشلهم في عدد من البلدان العربية هو نفسه ما يحاول العسكر استغلاله. إنهم يحاولون استغلال تذمر الشارع وإحباطاته من عجز الحكومات الإسلامية، من أجل البحث عن مشروعية الشارع، ومحاولة الارتكان إلى بعض أشكال التصويت، والإيهام بالسيادة الشعبية، والتبشير بمستوى حياة أعلى وأفضل، واستغلال الهلع والفوضى المعنوية المتزايدة من السقوط في يد الحركات الإسلامية.
يثبت تاريخ الثورات والتجارب الانتقالية العالمية أن أسس النجاح هي التأسيس المفاهيمي العميق للتغيير. هذا التأسيس يجب أن يكون خلاصة عقودٍ إن لم يكن قروناً من الاجتهاد الفكري والفلسفي المسنود بالعقلنة. في مسارات انتقالها سلكت البلدان الأوروبية طريقاً تأسس على توافقات مؤقتة مبنية على التعاقد، وهي التجربة نفسها التي انتهجتها بلدان أميركا اللاتينية والديمقراطيات الإفريقية الناجحة وفي مقدمتها جنوب أفريقيا.
لاتزال المجتمعات العربية بعيدةً عن وعي طبيعة النموذج السياسي والاجتماعي الصالح للمنطقة، وهو بدون شك المسلك الليبرالي التعدّدي، الذي لن تستطيع المنطقة من دونه شق طريقها نحو الحرية والاستقرار. هذا الخيار الذي أثبت مفعوليته في أكثر من تجربة عالمية، تواجهه بكل تأكيد عقبتان أساسيتان تمثلها الحركات الإسلامية والعسكر مجتمعين. ليس من صالح كلا المكوّنين بناء أرضية ثقافية للنظام الديمقراطي التعدّدي وما يعنيه ذلك من بناء مؤسساتي يكفل الحريات العامة، وقادر على التجسيد الفعلي للإرادة الجماعية المشتركة.
كل المؤشرات الثقافية تشير إلى أن صراعات طويلة وقد تكون دراماتيكية، قد تنفجر في كل لحظة وحين في مجموعة من بلدان «الربيع العربي»، على غرار ما يجري في ليبيا وسورية، ومخاطر انفجار الوضع في مصر، ما دامت القوى الفاعلة المهيمنة في الوقت الراهن، تجد الكثير من المراتع الخصبة للتجييش ودغدغة العواطف القومية والدينية والوطنية، تسندهم في ذلك تربة اجتماعية لم تتشبع بالمثل والقيم والأفكار الليبرالية التي هي الأساس النظري والإيديولوجي للديمقراطيات الحديثة.
إقرأ أيضا لـ "عزيز مشواط"العدد 4074 - الجمعة 01 نوفمبر 2013م الموافق 27 ذي الحجة 1434هـ