قبل يومين، حلَّت ذكرى العدوان الثلاثي على مِصر، الذي كانت مسبباته الأساس: قرار تأميم قناة السويس. ورقتان وقَّعها عن «إسرائيل» ديفيد بن غوريون، وعن فرنسا كريستيان بينو، وعن بريطانيا باتريك دين، كانتا كافيتيْن لأن يُعتَدَى على بلد ذي سيادة، وعضو عربي وأممي نشط.
20881 يوماً مضى على العدوان. أو لنقل 696 من الشهور قد انصرمت، أو أنْجَى الزمان 2983 أسبوعاً. في جميع أشكال الأعداد المذكورة، ضماً أو فكَّاً، فإنه لا يبدو أن ذلك العدوان في طريقه إلى النسيان من ذاكرة أي عربي أو حرٍّ في العالم. وربما أتجاسر في القول، لأجزم بأن أضعافاً مضاعفة من السنين والشهور والأيام، قد لا تكون قادرةً على محوها بالمرة.
أتذكر، أن أوَّل كتاب «نوعي» قرأته عن العدوان الثلاثي، كان في غرَّة فبراير العام 1998، للكاتب المصري الشهير محمد حسنين هيكل: «ملفات السويس». أهمية الكتاب لا تكمن في أن مؤلفه مواكِب قريب فقط، بل لأن جوقة من الناشرين وأرباب الثقافة والصحافة في الغرب (حينها) قد شجَّعوا عليه منذ أن كان فكرة، كاندريه دويتش، ودينيس هاملتون وأندرو نايت وهارولد إيفانز.
أهمية الكتاب كانت (ولازالت) في أن 305 من صفحاته الـ 922 قد خُصِّصَت للوثائق الرسمية (عددها 246 وثيقة) الصادرة عن رؤساء وملوك دول، وضباط كبار. وفي العادة، تكون الوثيقة بعيدة عن رأي المؤلف، حيث يكون القارئ حراً في النظر إليها كنص وحَدث بعيداً عن التوجيه. في كل الأحوال، فإن ذلك كله، لا يلهينا عن أصل الحادثة (العدوان الثلاثي) ومسبباته (قناة السويس).
أولاً، يجب أن نعرف ماذا تعني قناة السويس؟ وما هي أهميتها إلى الحد الذي يجعلها تُنشِب حرباً؟ والحقيقة، أن هذه التساؤلات مهمَّة جداً، ومشروعة لفهم تاريخ أمتنا. لذا فإنني وإجابة على تلك التساؤلات، يمكن القول وبكل اختصار، بأن قناة السويس هي ممر مائي صناعي يبلغ طوله 193 كم، يربط البحريْن الأبيض المتوسط شمالاً بالأحمر جنوباً، حيث تكون بورسعيد إطلالتها على طرف المتوسط والسويس على البحر الأحمر.
أما أهميتها فتكمن في أنها تختصر خطوط الاتصال البحرية بين جنوب أوروبا وشمالها (وكذلك الأميركيتين) للوصول إلى شرق إفريقيا وجنوبها، فضلاً عن عموم آسيا واستراليا ونيوزلندا، كبديل عن رأس الرجاء الصالح، الذي يلتوي من المحيط الأطلسي على سواحل إفريقيا الغربية والجنوبية للوصول إلى شرقها، وإلى آسيا وبقية نقاط القصد. وهو ما يعني، أن قناة السويس، تشكل خط اتصال مثالي في طوله، وفي قلة أخطاره الطبيعية، كونها تتصل ببحريْن هادئيْن.
أيضاً، فإن إيرادات قناة السويس تعتبر «من المصادر الرئيسية للنقد الأجنبي في الاقتصاد المصري، إلى جانب السياحة وصادرات النفط والغاز وتحويلات المصريين المقيمين في الخارج» (كما جاء في تقرير لـ «رويترز») عبر الرسوم التي تدفعها السفن العابرة لمياهها، حيث أنها تتحكم في 40 بالمئة من الحركة العالمية للسفن والحاويات كما تشير بعض التقديرات والإحصائيات.
فخلال شهر واحد، من شهور الأزمة المصرية الأخيرة، بلغت إيرادات القناة 405.1 ملايين دولار، ما يعني أن الدخل السنوي لها قد يصل 4.8 مليارات دولار، ضمن أسوأ الظروف السياسية والأمنية والاقتصادية. وحسب تصريح سابق لرئيس هيئة قناة السويس فإنه وخلال يوم واحد فقط، بلغ عدد السفن التي عبرت القناة «من اتجاهي الشمال والجنوب واحداً وستين سفينة بحمولات إجمالية بلغت 3.35 مليون طن»، ما يعني أن في العام الواحد قد تمر في مياهها 22.265 سفينة!
أمام كل تلك المكانة الإستراتيجية، قرر الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس في يوليو من العام 1956، بعد أن رزحت تحت النفوذ البريطاني لعشرات السنين. وخَطَبَ في الأمة خطابه الشهير: «لن نُمكِّن منا المستعمِرين... سنعتمد على سواعدنا». وعلى إثرها بدأ التوتر في العلاقات المصرية البريطانية، أضيفَ إليها توتر مع الفرنسيين لدعم عبدالناصر ثوار الجزائر، وتوتر مع الإسرائيليين كعدو تقليدي ومباشر، فبدأ العدوان الثلاثي «السافر» على مصر.
بدأ العدوان بهجوم القوات الإسرائيلية على أرض سيناء في الساعة الخامسة من عصر التاسع والعشرين من أكتوبر العام 1956. بعدها قامت الخارجيتان البريطانية والفرنسية، باستدعاء سفيرَيْ مصر في كل من لندن وباريس وتسليمهما إنذاراً بالانسحاب بعيداً عن قناة السويس لمسافة عشرة أميال، ينتهي في الساعة السادسة بعد الظهر بتوقيت القاهرة.
وعندما انتهت مدة الإنذار «القصير»، «بدأت أولى الغارات البريطانية على مطار ألماظة الملاصق» لبيت جمال عبد الناصر، الذي كان «مجتمعاً مع السفير الأندونيسي في القاهرة الذي جاء يحمل رسالة من رئيسه» (كما جاء في كتاب محمد حسنين هيكل: ملفات السويس).
لن أسهِبَ كثيراً في تفاصيل المعركة، ولا بالتدخل السوفياتي لإنهائها، ثم الضغط الأميركي على أوروبا و»إسرائيل» لإنهاء أمرٍ لم يكن في صالح الولايات المتحدة كما سماه إيزنهاور حينها، لكن ما يجب تذكره في هذه الحادثة، أن ونستون تشرشل قال لهارولد ماكميلان: «لقد كنتُ واثقاً بأن أنتوني سوف يقودنا إلى كارثة، ولكنني لم أتصورها بهذا الحجم. لو كنتُ مكانه لما واتتني الشجاعة على الإقدام على هذا الجنون، ولما واتتني الشهامة للهرب منه بهذه الطريقة المهينة».
وربما قال تشرشل ذلك الكلام لأن شيئاً ما كان موجوداً (إلى جانب التهديد السوفياتي والتحذير الأميركي) يتعلق بما كان عند العرب آنذاك (ولو بحد الكفاف) صرنا نفتقده اليوم، ونحن نعيش في عصرٍ أسود، لا يتحرك عند بعض العرب فيه أدنى شعور، والغرب يبعث بمخالبه في بعضنا الآخر.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4072 - الأربعاء 30 أكتوبر 2013م الموافق 25 ذي الحجة 1434هـ
سلمت يداك
أجد الفائدة والمتعة في قراءة مقالاتك
شكرا
انت من الكتاب الذين ابتهج لرؤية مقالاتهم لما تحويه من ثقافه عميقه
شكرا جزيلا
شكرا
متابع
نرجوا من الكاتب القدير أن يكتب لنا مقالات تتناول الأمور التالية : 1- قضية النفط الصخري في أمريكا و تأثيرها على امريكا اقتصاديا و على علاقاتها الاقتصادية و السياسية مع العالم و الدول النفطية بالأخص ، وأخص من ذلك الخليج ( هل صحيح أنها ستتخلى عن الخليج قريبا بسبب ذلك ؟ ) ...... 2- سوريا : الواقع الميداني ، أين تسيطر المعارضة تحديدا و أين يسيطر النظام ؟ بغض النظر عن التهويل الاعلامي لكلا الطرفين ، و أيضا من يتقدم الآن عسكريا و سياسيا ؟ أم أن الوضع شبه ثابت ؟ نسبة الاراضي التي يسيطر عليها الطرقين ؟
شكرا
شكرا على هذا النفس العروبي اخ محمد