منذ سنوات، تخوض مدينة طرابلس في شمال لبنان حروبا بالوكالة عن نزاعات محلية واقليمية، ابرزها في سوريا المجاورة، يغذيها صراع طائفي بين السنة والعلويين، وتسببت منذ (مايو/ أيار 2008) بمقتل اكثر من مئتي شخص وجرح حوالى ثلاثة آلاف آخرين.
وشهدت منطقتا جبل محسن ذات الغالبية العلوية وباب التبانة ذات الغالبية السنية في طرابلس 18 جولة من المعارك منذ 2008، آخرها مستمر منذ 21 اكتوبر/تشرين الاول وقتل فيها 14 شخصا. وفي كل مرة تنتهي الجولة ب"توافق" على انتشار الجيش اللبناني، فيختفي السلاح.... ليظهر في الجولة اللاحقة.
ويقول الشيخ نبيل رحيم، احد فاعليات المدينة الذي يلعب دورا بارزا في جهود التهدئة، ان اسباب العنف المتكرر هي "تداعيات الازمة السورية، والاصطفاف السياسي الحاد بين قوى 14 آذار (مناهضة للنظام السوري) وقوى 8 آذار (ابرزها حزب الله حليف دمشق)، والاحتقان الطائفي".
ويوضح لوكالة فرانس برس من مكتبه في وسط طرابلس "في جبل محسن، معروف من يدعم بالسلاح والمال: ايران وحزب الله والنظام السوري. اما في باب التبانة، فالوضع معقد. الكل يحارب: من يقع منزله قريبا من محاور القتال، من ينتمي الى الحالة الاسلامية، وغيرهم من اصحاب الانتماءات السياسية المتنوعة".
وتتنصل الزعامات والاحزاب السنية الاساسية من المجموعات المسلحة في باب التبانة، وتطالب بمدينة منزوعة السلاح.
وبدأت الجولة الثامنة عشرة خلال بث مقابلة تلفزيونية للرئيس السوري بشار الاسد، بسبب اطلاق نار ابتهاجا انطلق من جبل محسن وطال باب التبانة، وبعد تفجيرين استهدفا مسجدين سنيين في طرابلس في 23 آب/اغسطس وقتل فيهما 45 شخصا، وبينت التحقيقات القضائية تورط علويين فيهما، بالاضافة الى مسؤول امني سوري.
واتهم سعد الحريري، ابرز الزعماء السنة، نظام الرئيس بشار الاسد بشن "حرب قذرة" على طرابلس "بواسطة أدواته المحليين"، الا ان الحزب العربي الديموقراطي، ابرز ممثل للعلويين في لبنان والذي يقاتل في جبل محسن، ينفي هذه الاتهامات.
ويقول المسؤول الاعلامي في الحزب عبد اللطيف صالح لفرانس برس ان سبب الجولة الاخيرة "التصريحات النارية لبعض المسؤولين غير المسؤولين في طرابلس"، في اشارة الى مهاجمة قيادات سنية طرابلسية الحزب العربي الديموقراطي بسبب التفجيرات الاخيرة ومطالبتهم بحله.
ونشأ خط التماس بين جبل محسن وباب التبانة خلال الحرب الاهلية اللبنانية (1975-1990)، ووقعت المعركة الاولى على خلفية نزاع سوري فلسطيني، بين جبل محسن الموالي لنظام الرئيس حافظ الاسد آنذاك وباب التبانة حيث السنة ومنظمة التحرير الفلسطينية.
في الثمانينات، تحولت المواجهات بين العلويين بالوكالة عن السوريين وحركة التوحيد الاسلامية السنية، الى حين دخول الجيش السوري المنطقة في 1986.
وامسك الجيش السوري بطرابلس حتى خروجه من لبنان العام 2005 بعد حوالى ثلاثين سنة من التواجد والنفوذ. وساد الهدوء خلال تلك الفترة بين باب التبانة وجبل محسن، وحصل اختلاط ومصاهرة وشراكات تجارية.
وبعد انسحاب الجيش السوري تحت ضغط المجتمع الدولي وتوجيه اصابع الاتهام الى دمشق في اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري في 2005، عاد التوتر الى المنطقة، وبعد ثلاث سنوات، المواجهات العسكرية.
ويقول غسان ريفي، مدير مكتب صحيفة "السفير" في طرابلس والذي يغطي احداث المدينة منذ 25 عاما، ان هذه المواجهات تجسد في كل مرة "تنفيسا لاحتقان اقليمي او محلي. الجولة الحالية شعارها الاحتقان السوري السعودي".
ويقطن جبل محسن ستون الف شخص غالبيتهم من الطائفة العلوية، بينما يبلغ اجمالي سكان طرابلس حوالى نصف مليون غالبيتهم من السنة. ولم يتمكن فريق وكالة فرانس برس من دخول جبل محسن بسبب رصاص القنص الذي كان يقطع الطرق، فيما افاد مصدر امني عن انتشار الجيش فيه لضبط الوضع.
في المقابل، وعند مدخل باب التبانة الشمالي في شارع سوريا الفاصل بين المنطقتين المتحاربتين، عمد مسلحون الاثنين الى وضع عوائق في وسط الطريق امام عشرات آليات الجيش لمنعها من الانتشار.
ويشكك سكان طرابلس في فاعلية الاجراءات الامنية.
ويقول رشيد الرشيد (47 عاما)، صاحب محل تجاري في وسط المدينة، "اذا لم توضع خطة امنية لنزع السلاح من الطرفين ستبقى الامور فالتة"، مضيفا "المسلح ومتعاطي المخدرات لا يملك مالا ليشتري رغيف خبز، من اين ياتي بالسلاح؟". واتهم "السياسيين بتمويلهم".
وتعتبر مناطق باب التبانة والاحياء المحيطة بها من افقر المناطق اللبنانية، ما يجعل تطويع مقاتلين فيها مقابل مبالغ زهيدة امرا شائعا. وغالبا ما يكون هؤلاء من المهمشين والخارجين عن القانون.
ويقر رحيم بان بعض المقاتلين في باب التبانة "يحاربون فعلا للدفاع عن انفسهم، لكن البعض الآخر تتحكم بهم غرائز طائفية او مناطقية، او مصالح مادية، مثل الذين يرفضون وقف النار حتى ياتي من يدفع لهم ثمن كل الذخيرة التي استخدموها".
ويعرف ابناء طرابلس بالاسماء والوجوه من يسمونهم "قادة المحاور" في باب التبانة. ويعرفون من اي زعيم محلي او "جهة خارجية" يتقاضى كل منهم الاموال ويؤكدون ان معظم هؤلاء تتقلب ولاءاتهم بحسب الجهة الممولة. كما يتحدثون همسا عن "صراع اجهزة" داخل المدينة.
وفي هذا الاطار، يتهم ابناء باب التبانة والقبة وجوارهما من المناطق السنية مخابرات الجيش اللبناني بالتواطوء مع جبل محسن، بينما يحمل زعماء جبل محسن فرع المعلومات في قوى الامن الداخلي مسؤولية "تركيب التهم" لابناء الجبل العلويين.
وسط كل هذه التعقيدات، يبدو كل حل على المدى القريب للوضع في باب التبانة وجبل محسن شبه مستحيل.
ويقول رحيم "لا حل الا اذا انتهت الازمة السورية وحصلت مصالحة وطنية وتوقف الدعم المالي الموجه لشراء السلاح".