لقد تميّزت البحرين بنهضة علمية ودينية على مر العصور، وقد كان ملاحظاً أن البحرين بعلمائها، كانت قد ساهمت في تسجيل حضورها العلمي المدهش في كل الأدوار التي مرت على المؤسسة الدينية منذ أيام مدرسة بغداد في القرن الخامس الهجري وحتى عصور متأخرة نسبياً.
ولقد كان علماء البحرين يسهمون بشكل مباشر في تدعيم النشاط العلمي في العالم الإسلامي، وكان هذا التوجه الطموح يحظى بدعم وتشجيع من البلاط الصفوي، منذ القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي؛ فالشيخ سليمان الماحوزي (ت 1121هـ) يؤلف كتاب «الأربعون حديثاً» ويُهديه للشاه حسين الصفوي حيث صنّفه باسمه على عادة القدماء؛ فيبادله الشاه الصفوي بـ «ألفي درهم» (لؤلؤة البحرين، ص 10).
وعلى رغم أن إيران في العهد الصفوي كانت مقصداً لرجال المؤسسة الدينية في البحرين، إلا أنها سرعان ما تعرّضت هي الأخرى للغزو الأفغاني سنة 1722م/ 1135هـ، وبانهيار الحكم الصفوي في البحرين، في أعقاب الهجوم الأفغاني على إيران في العقد الثاني من القرن الثامن عشر الميلادي، تحولت العراق إلى مقصد جديد لهجرة علماء البحرين. وازدادت في هذه الفترة وتيرة هجرة علماء البحرين إلى كربلاء والنجف، وتبنى القسم الأعظم منهم الاتجاه الاخباري الذي كان سائداً وقتها في الحواضر العلمية.
حكمت الأسرة الصفوية إيران قرنين وقرابة الثلاثة عقود (1502 – 1736م/ 907 - 1148هـ)، بعد أن كانت مجرد «طريقة صوفية» تنسب إلى الشيخ صفي الدين (ت 1135م/ 735هـ) في أردبيل. وبعد أن سقط حكمهم في العام 1736م/ 1149هـ، اعتزل من نجا منهم من سيف السياسية، وغادروا إيران إلى الهند ليعودوا صوفيةً كما بدأوا.
شكّلت المراسلات العلمية التي جرت بين علماء البحرين وبين علماء العالم العربي والإسلامي، إحدى الظواهر العلمية التي ميّزت مجتمع البحرين في العصور المختلفة، إلى جانب ظواهر أخرى أهمها الهجرة العلمية؛ فقد درس بعض علماء البحرين القدامى في العراق رغم ازدهار الحركة العلمية في البحرين قديماً، وكان الشيخ ناصر الدين راشد بن إبراهيم البحراني من العلماء المتقدمين قد أقام في العراق مدةً وقرأ فيها على كبار العلماء.
وكان بعض علماء البحرين أساتذةً لعلماء مشاهير من بلدان أخرى كالعلامة الشيخ ناصر بن أحمد المتوّج، الذي كان من تلامذة العالمين الفاضلين الشيخ أحمد بن فهد الحلي والشيخ أحمد بن فهد الإحسائي.
كما أن العلامة المعروف بالفيض الكاشاني من مريدي العلامة السيد ماجد الجدحفصي البحراني (ت 1619م/ 1028هـ) المتوفى في شيراز. وقد درس الفيلسوف الكبير نصير الدين الطوسي الفقه على يد العلامة الشيخ ابن ميثم البحراني، كما كان الطوسي أستاذاً له في الحكمة.
لقد دأب علماء البحرين على إرسال الرسائل إلى نظرائهم العلماء في شبه الجزيرة العربية، والعراق وإيران، كما كان علماء البحرين بدورهم يتلقون مثل هذه الرسائل العلمية التي كانت تتضمن أسئلة عقائدية وفقهية، وكان هذا اللون من المراسلات سائداً في ظل الظروف السياسية والاجتماعية الصعبة وضعف نظم الاتصال، فالفقيه العلامة الشيخ سليمان بن عبدالله الماحوزي (ت 1709م/ 1121هـ) يجيب على رسالةٍ بعث بها الميرزا عبدالله أفندي الأصفهاني (ت 1718 م/ 1130 هـ)، صاحب «رياض العلماء» يسأله فيها عن علماء البحرين، فيجيبه الشيخ الماحوزي برسالة مختصرة ستكون أول مصنّف رجالي عن علماء البحرين، وهي التي ستعرف بـ «فهرست علماء البحرين».
لقد كانت الصلات العلمية قائمةً بين إيران الصفوية والبحرين، وكان العلماء يتكاتبون فيما بينهم للنقاش في القضايا العلمية، ويذكر المؤرّخ البلادي أنه وردت إلى البحرين مسائل من علماء أصفهان ليجيب عنها علماؤها ووصلت إلى حاكم البحرين من قبل الدولة الصفوية، فأرسل الحاكم رجاله إلى العلماء ليجيبوا عن هذه المسائل، وكان من ضمن هؤلاء العلماء الشيخ حسن الدمستاني (ت 1706م/ 1118 هـ) في قصة معروفة ذكرتها كتب التراجم.
وكان للنقد العلمي نصيبٌ من نشاط علماء البحرين، ويعد كتاب الشيخ يوسف آل عصفور (ت 1772م/ 1186هـ) «لؤلؤة البحرين» نموذجاً ممثلاً لظاهرة المثاقفة والسجال العلمي الخصب الذي كان يعيشه علماء البحرين. فهو كتابٌ يطفح بالكثير من الملاحظات التاريخية القيّمة بما يكشف عن أفق واسع وعلم موسوعي لمصنّفه، وفي الكتاب طرف من بعض تاريخ الدولة الصفوية في سياق ترجمته لحياة بعض العلماء، كما في ترجمته لحياة الشيخ علي الكركي (ت 1534م/ 940 هـ) المعروف بـ «المحقّق الثاني».
ولقد كان للشيخ لطف الله بن محمد آل لطف الله الجدحفصي تصحيحٌ لبعض أجزاء من «شرح نهج البلاغة» لابن أبي الحديد، فرغ منها العام 1751م/ 1164هـ.
وقد تلقى بعض العلماء البحرانيين في الماضي إجازاتهم العلمية من علماء كبار في العالم الإسلامي، من أمثال محمد باقر المجلسي، والشيخ بهاء الدين العاملي. وفي كتاب «بحار الأنوار» للشيخ المجلسي العديد من إجازات المؤلف لعلماء البحرين منهم الشيخ أحمد بن محمد بن يوسف السماهيجي وغيره.
وفي المقابل، أجاز علماء البحرين غيرهم من علماء المناطق المختلفة، كإجازة الشيخ السماهيجي للجارودي المعروفة، وإجازة العلامتين البحرانيين السيد مهدي الغريفي والشيخ خلف العصفور (ت 1936) لآية الله السيد المرعشي النجفي (ت 1990). ويسرد الشيخ آغا بزرك الطهراني (ت 1970) في كتابه «الذريعة» الكثير من نماذج الإجازات المتبادلة بين علماء البحرين وعلماء المناطق الأخرى عبر العصور.
أما من حيث المؤلّفات، فقد اعتنى علماء البحرين بالمؤلفات العلمية في العالم العربي والإسلامي، وكان هذا التفاعل العلمي يأخذ أشكالاً عدّة، منها الشرح والاختصار والنشر والحفظ وإعادة النسخ، بما ساعد على انتقال الكثير من الكتب التي كتبها علماء البحرين إلى الخارج في شبه الجزيرة العربية والعراق وإيران والهند واكتسبت رواجاً ملحوظاً.
وقد ألف السيد هاشم البحراني كتاب «حلية الأبرار في أحوال محمد وآله الأطهار» للوزير العارف «إيماني بيك» بحسب صاحب «الذريعة»، توجد منها نسخ متعددة في إيران بمشهد وقم وهمدان.
ولقد كانت حركة الترجمة من الظواهر العلمية البارزة في المشهد الثقافي السائد وقتها، فقد ترجم السيد ماجد بن محمد آل شبانة للشاه سليمان الصفوي (ت 1694م/ 1106هـ) عهد الإمام علي بن أبي طالب (ع) لمالك الأشتر، إلى اللغة الفارسية، وكذلك أمر السلطان القاجاري ناصر الدين شاه بعض خاصته بترجمته كتاب «غاية المرام وحجة الخصام في تعيين الإمام من طريق الخاص والعام» للسيد هاشم البحراني إلى الفارسية، وهو الشيخ محمد تقي بن علي الدزفولي، وحملت الترجمة عنوان «كفاية الخصام»، ولخّص «غاية المرام» الآقا نجفي الأصفهاني (ت1331هـ)، وللكتاب حواش كتبها الميرزا نجم الدين جعفر الطهراني (ت1313هـ).
هذه إشارة يسيرة إلى جزء مجهول من تاريخ علمي يُراد محاصرته وطمس معالمه، بغية الركون إلى ذاكرةٍ محرّفةٍ تُشّيد بالمال والأحقاد لا بالوثيقة والحقيقة.
إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"العدد 4070 - الإثنين 28 أكتوبر 2013م الموافق 23 ذي الحجة 1434هـ
شكرا
مقالاتك دائما متميزة وممتعة ومفيدة ومتنوعة
ولكن كيف؟
كيف تطورت قم بالعلوم والبحوث العلميه في الدين من علماء الافاضل في البحرين شيء عطيم
شكرا لك
لقد نبهتني لشئ لم اعلمه وهو ان البحرين كانت كاليونان في نهضتها العلمية والفلسفية قبل التاريخ يقال ان ارسطو وإفلاطون وفيثاغورس من البحرين وتميزت بعصبياتها قبل الإسلام وبعده وزادت من طائفيتها قبل الزمن أتمنى ان لا نحلم وننفخ في شئ لا يحتملاه التاريخ سؤالي لك من اين جئت بهذه المعلومات من الرواة والقصاصين وحزاوي العجايز ماذا يجبرني ان اصدقك يرحم والديك قول النهضة العلمية في فرنسا وإنجلترا واليابان والمانيا ولكن ان تسوق البحرين بنهضة علمية من خلال كتابات بعض الملالي فهذا كثير على العلم صلي على محمد
هذا لا يستوعبه عقلك
هذا ما لايستوعبه عقلك الصغير صديقي.. شكرا لقراءة المقال
كشكول العلامه شيخ حسين العصفور قدس سره!
قد لا يقال هنا في البحرين قد فقد عمل من أعمال أهلها إلا أن شيخ حسين من العلامات غير التجاريه بينما من العلماء أو جهابدة العلم!- يعني من جاهد في الله حق جهاده. فيقال من الكشاكيل كشكول بهاء الدين البحراني ومن الكشاكيل كشكول شيخ حسين العلامه لكن قصته أو قصة مصادرته من بيت قتيل الغاز المسيل للدموع – يعني سعيد إبن الشيخ عيسى بن الشيخ علي الموسى. فيحكى أن القتيل قد تعرض لمصادرة كتبه وسجنه على أيدي مخابرات أمن الدوله سابقا. فهل هنا في البحرين صودرت المخطوطات كما أخفيت عن الناس؟
تصورى كان خاطئا
عند قراءة عنوان المقال تصورت المقال يبحث حول عدم الإهتمام بالعلماء الحاليين و عدم الإهتمام بهم. المقال معلومة قيمة لكن وضع العلماء، المبتكرين و المخترعين سيء و كما يقال بالعامية: محد معبرهم.
شكرًا جزيلا أستاذنا الفاضل
مقال رائع رائع ، الله يعطيك الف عافية ، فعلا نحن محتاجون لهكذا مقالات ودراسات تنفض الغبار عن تاريخنا المضئ وما يحاول العابثون من طمسه وتشويهه وتغييب الذاكرة الحقيقية لما قبل قرنين من الزمان ، ويحرفون تاريخ وطننا ويختصرونه في قرنين من الزمان، ولكن هيهات ان يضيع تراث أجدادنا ما دمتم أيها الأحفاد الشرفاء بهذه الهمة ،شكرًا لكم .
شكرا
شكرا لمرورك الجميل