المكان الذي يُعدّ نفسه للفرح، في المسافات المرصوفة ما بين وطنين وشعبين وتاريخين، ثمّة مقاربات إنسانيّة تنبش من كلّ موضعٍ جماليّاته وعفويّته، وتستمدّ من هذا الشّاسع ما يجعلها أكثر قدرة على مخاطبة الذي على الجانب الآخر من العالم، بطريقة الثّقافة في التّواصل والملامسة.
ومن ذاتِ الفكرة والشّغف الذي تفعله الثّقافات كانت الزّيارة التي نظّمتها سفارة فرنسا لدى مملكة البحرين بالتّعاون مع وزارة الثّقافة للاطّلاع على تجربة مهرجان (ليلة بيضاء – Nuit blcanche) الذي انطلق في الخامس من شهر أكتوبر الجاري في نسخته الثّانية عشرة، مواصلاً فكرته في معايشة الثّقافة والفنون في الفضاءات العامّة في مختلف الدّول الأوروبيّة، وتركّزت هذه المرّة أعمال وفعاليّات المهرجان بالنّسبة للعاصمة الفرنسيّة باريس على ضفاف نهر السّين، قناة سان مارتان ومنطقة الماريه.
وقد قام بالزّيارة شابّتان من القسم الإعلاميّ بوزارة الثّقافة: رنوة العمصي وفاطمة عبدعلي واللّتان تابعتا أعمال التّنسيق والتّنظيم للمهرجان على مدى 3 أيام، التقتا فيهم بعدد من الشّخصيّات الثّقافيّة والتّنظيميّة، وحظيتا بفرصة زيارة عدد من الأعمال الفنّيّة والمواقع التّاريخيّة، إلى جانب تأمّل التّجربة الثّقافيّة الفرنسيّة والعالميّة عن قرب، في ملامسة لأثر الأعمال الفنّيّة المعاصرة وملاحظة تفاعل الجمهور والعامّة مع هذه المدخلات الفكريّة والثقافيّة.
في اليوم الأوّل للزّيارة، التقى الوفد البحرينيّ مسئولة الشّؤون الثّقافيّة جولييت سيلزمان لاستقبال الوفود العامّة بقسم العلاقات الدّوليّة (....) التي لخّصت تجربة مهرجان (ليلة بيضاء) وفكرته الثّقافيّة التي تستهدف إحداث انشغال عامٍ وحالة تيقّظ للمدينة الباريسيّة، يعيش فيها العامّة مقاربات خاطفة للأعمال الفنّيّة المعاصرة والحداثيّة لمدّة ليلة متواصلة من السّهر، وتُتاح لهم فيها فرصة التّعرّف على جديد تلك الأعمال وابتكاراتها، بمشاركة واسعة من الفنّانين والمبدعين من مختلف أنحاء العالم، كما يمثّل المهرجان لحظات استثنائيّة يُسمَح فيها للجمهور بزيارة معالم تاريخيّة ومعماريّة غير مسموح بزيارتها في الأيّام العاديّة.
وأكّدت سيلزمان في حديثها أنّ المهرجان في كلّ نسخة يسعى لتكوين مناطق جذب مختلفة، ويستند في أعماله إلى اجتذاب أعمال مبتكرة تعتمد على البساطة والفرادة في ذات الوقت، وتعرض توجّهات فكريّة وتيّارات ثقافيّة مختلفة وغير متوقّعة بهدف اجتذاب الآخرين إليها، وأوضحت أنّ العديد من تلك المواقع قد يكون جديدًا بالنّسبة للعامّة أو غير متوقّع، وتتنوّع مواقع تلك الأعمال ما بين المعمار التّاريخيّ، الكنائس والكاتدرائيّات، مواقع تحت الإنشاء، بعض القصور، المساحات العامّة والمفتوحة، الحدائق وغيرها من الأمكنة التي تضع العامّة وجهًا لوجه أمام المكوّن الفنّيّ أو التّصميميّ، مشيرةً: "هذه اللّيلة مشاعة ومتاحة للجميع، ليس من تركيز على فئات معيّنة بل نسعى لخلق مساحات تفاعليّة جماعيّة تلامس أقصى ما يمكن أن نصله. نحاول إبداع الفكرة والمضمون ونترك تلك المساحات لليلة باريسيّة لا تنام فيها المدينة ولا يتوقّف فيها النّاس عن اكتشاف المحتويات والمواضيع التي نبحث عنها".
ونوّهت إلى أنّ هذه الفكرة قد انطلق بها عمدة باريس قبل اثني عشر عامًا، وبدأت خطواتها الفعليّة باتّجاه تشكيل مجاميع إنسانيّة تتعرّف وتتقرّب من المواضيع الثّقافيّة، وتخرج فيها الأعمال من أماكنها المعتادة من مراكز ثقافيّة واستوديوهات فنّيّة إلى حيث يتواجد النّاس.
وقد اعتمدت اللّجنة التّنظيميّة للمهرجان على استراتيجيّة معيّنة لتنويع الأعمال وتوسيع شبكة التّواصل مع الفنّانين بهدف عدم تكرار النسخ وخلق حراك مغاير في كلّ مرّة، كما يهتمّ المهرجان خلال مراحل إعداده وتنسيقه بالتّواصل مع العديد من الجهات المعنيّة بالشّأن الثّقافيّ والسّياحيّ لدعم المشروع والمشاركة في تحقيق هذا المنجز.
وخلال حديثها، أشارت جولييت سيلزمان إلى أن (ليلة بيضاء) يرتكز في فكرته على عدّة عوامل رئيسيّة منها: مجّانيّة هذه الفعاليّات وكونها مفتوحة للجميع للتّمكن من الاحتفاء الشّعبيّ والجماعيّ بكلّ الأعمال والتّفاصيل، الحرص على أن تكون الأعمال المشاركة معاصرة في اتّصال مع الثّقافات المختلفة وحرصٍ على صياغة مشاهد حداثيّة في قلب المدينة التّاريخيّة وتوزيع وتعديد مناطق الاحتفال لتكون المدينة مستيقظة بأكملها ومتمكّنة من إيصال رسالتها وأهدافها بسهولة.
كما التقى الوفد بمدير المشاريع بمنطقة أفريقيا والشّرق الأوسط بوزارة الثّقافة الفرنسيّة أوليفييه ديسيز الذي أشار إلى مهرجان (ليلة بيضاء) كونه تجربة ثقافيّة استثنائيّة في المنطقة، مؤكّدًا من خلال عمله في منطقة الخليج العربيّ وتواصله مع مناطق عديدة في الشّرق الأوسط إمكانيّة محاكاة التّجربة والاستفادة من مواضيعها في حراكٍ يتجاوز قارّة أوروبا إلى القّارات الأخرى.
وأوضح ديسيز أنّ هذا المهرجان يستلزم خططًا متكاملة لابتكار الجديد في كلّ مرّة، مشيرًا إلى أنّ العامّة في استعدادٍ دائمٍ لخوض تجارب شبيهة والمشاركة في مثل هذه الأعمال لكونها مادّة جذب إنسانيّ.
وقدّم خلال حديثه لمحة عامّة عن العديد من المشاريع الثّقافيّة العامّة التي تشهدها باريس من بينها ليلة موسيقيّة مفتوحة، يُسمَح فيها للجمهور بالنّزول إلى الشّارع وأداء المقطوعات الموسيقيّة والغنائيّة في الفضاءات المفتوحة.
أمّا اليوم الثّاني، فقد كانت فرصة للاطّلاع على تجربة مهرجان ليلة بيضاء، إذ أُعلِن بدء المهرجان من خلال إطلاق رنين الأجراس والصّفارات في كلّ مكان في الوقت ذاته، حيث يمكن لكلّ المارّة إصدار رنين باستخدام أيّة مادة أو أداةٍ تكون بين أيديهم في تلك اللّحظة، ومع هذه البداية انطلقت رحلة الوفود القادمة من البحرين، تورنتو، سوريا، سنغافورة وغيرها لزيارة هذه التّجربة من خلال عدّة محطّات متنوّعة، الأولى منها كانت مع إحدى الكنائس القديمة والمهجورة، والتي عرضت فيها إحدى الفنّانات الفرنسيّات عملها المستلهم من الطّبيعة، حيث يتكوّن العمل الفنّيّ من عدد من وريقات الأشجار الشّهيرة الضّخمة والمصنوعة من مادّة الفايبر جلاس، وتتّخذ وضعيّات التّرتيب لتلك المجموعات الشّكل اللّولبي وجمعيها معلقّة بطريقة متدرّجة وتصاعديّة في منتصف سقف الكنيسة حيث القبّة وتنتهي إلى نقطة سوداء صغيرة مضاءة بصورة خافتة تشبه النّجوم، وفي ذلك إشارة إلى روحانيّة المكان وفكرة التدرّج في الصّعود للآلهة.
وقد رافق هذا العرض موسيقى وغناء كنائسيّ انسجم فيه الزوّار مع فضاء المكان وطبيعته الدّينيّة.
أمّا الكنيسة الأخرى فقد عرضت عملاً فنّيًّا لأحد كبار الفنّانين الكوريّين الرّاحلين، والذي يمثّل ستارة خيوط مضاءة باللّمبات وسط العتمة، وذلك في استدراج لفكرة العطاء والتّعبير عن مفاهيم التّضحية والإشعاع.
كما اتّجهت رحلة الوفود إلى أحد المعاهد الشّبابيّة الثّقافيّة والريّاضيّة التي كانت قيد الإنشاء، إذ عرض القنّان الصّينيّ هونغ يونغ بينغ عمله الفنّيّ (الحزام) والذي يتكوّن من أنبوب شفّاف ضخم بتقاطيع والتواءات معيّنة ويحتوي على عدد كبير من الكائنات الزّاحفة والحشرات التي كانت على قيد الحياة. وقد التفّ الجمهور حول هذا العمل المثير للجدل والغرابة كونه أحد أكثر الأعمال إثارة للصّدمة!
اختتمت الوفود مشاركتها في مهرجان (ليلة بيضاء) عند ساحة (دي لا ريبابليك) العامّة، حيث العمل الضّبابيّ الضّخم للفنّان فوجيكو ناكايا الذي تمكّن من تطبيق تقنيّاته لإحداث ضباب صناعيّ في المكان، والذي منح الأجواء حميميّة وشاعريّة خاصّة، كانت من خلالها خيالات المارّة وأضواء السّيارات بانطباع مختلف ومغاير، كما زاروا نهر السّين حيث انطلقت من هناك مجموعة من الألعاب النّاريّة في تقليد شعبيّ واحتفائيّ.
وفي اليوم الأخير للزّيارة حظي الوفد البحرينيّ بفرصة لقاء منسّق مهرجان (ليلة بيضاء) خلال العام السّابق فلورينت ليبون، الذي أشار إلى ثيمة النّسخة الماضية باعتبارها تركّز على الضّوء والمعمار في الوقت ذاته، قائلاً: "ما يميّز مهرجان ليلة بيضاء كونه لا يخترع إضافات غريبة أو شاذّة عن المكان الطّبيعيّ، بل يوظّف تلك الموجودات وطبيعة الأمكنة وتفاصيلها في إبداع العمل الفنّيّ"، معلّقًا: "على سبيل المثال، استُخدِمت في العام الماضي رافعة كانت تعمل في موقع التّشييد كعمل فنّيّ بعد إضافة مجموعة إضاءات بطريقة معيّنة، لم نكن نحاول مواربة الأشياء، بل على العكس كنّا نعيد تقديمها إلى العامّة في إطار جماليّ فعّال".
وقد ناقش ليبون فكرة الوفد البحرينيّ حول احتفاليّات مرور 25 عامًا على تأسيس متحف البحرين الوطنيّ، والذي يسعى خلال شهر ديسمبر إلى إقامة فكرة مشابهة حول الاحتفاء لمدة 12 ساعة متواصلة، مؤكّدًا من خلال زياراته السّابقة للبحرين: "هذا البلد غنيّ بما يمتلك من مواصفات ومكوّنات، يمكن بكلّ تأكيد استثمارها وتوظيفها في حراك ثقافيّ مميّز على مستوى المنطقة".
تأتي هذه المشاركة كتمهيد مبدئيّ للعمل على احتفاليّة مرور 25 عامًا على تأسيس متحف البحرين الوطنيّ، والذي تنطلق فيه ليلة (ما نامت المنامة)، إذ تحتفي المنامة عاصمة السّياحة العربيّة للعام 2013م في منتصف شهر ديسمبر المقبل بالعديد من الأعمال الفنّيّة والموسيقيّة والمتحفيّة، وتطلق في هذه المناسبة أمسيات متواصلة، تشارك من خلالها السّفارة الفرنسيّة بمشروعها الثّقافيّ بالتّنسيق مع وزارة الثّقافة.