سبق أن أشرنا إلى أهمية العنوان في قصيدة النثر وعلاقته الخاصة التي تعمقت بالقصيدة. ولم تكن تلك الإشارة لتغفل إمدادات القصيدة التاريخية، وظروف كون الشعرية العربية في بدايتها ككل الشعر العالمي بدأت مرتبطة بالشفاهة.
تلك الشفاهية التي لم تضع عنواناً للمحفوظات والمرويات، وهي من صفات الشفاهية ذاتها باعتبارها مرحلة من مراحل تطور المعرفة. وندرك حجم الضغط الذي ينشأ من اتساع المدونات الناتج عن فعل التدوين، والذي يمثل حالة مضادة للشفاهية، وبالتالي تبدأ عملية التصنيف والتبويب بعد التدوين مباشرة، ذلك نمط تطور المعرفة الذي بتنا نراه حتى في العلم ذاته.
تمدن الشعرية
ولعل مرجعية الفن العامة هي الحياة الاجتماعية التي تتجلى فيها حالة التناص بين الشعرية والحياة الاجتماعية، وهو الأمر الذي يوضح أن العيش الحر في الصحراء باعتباره نمطاً من أنماط الحياة في العصور السالفة، وبدايات السكن البسيطة، كأكواخ القرى وبيوت الطين، لم تكن بحاجة إلى العنوان لتمييزها باعتبارها بيوتاً في القرى. ولكن بمجرد أن تطورت المدن وامتد عمرانها صارت بحاجة إلى العنوان لتعريف المكان وتمييزه، فنلاحظ مثلاً أن العنوان يبتدئ بتحديد العلامات الكبيرة الموجودة في المدينة بتحديد أسماء الشوارع والدوارات والمجمعات التجارية القريبة من المكان المقصود، ثم توضع العناوين على البنايات والمحلات التجارية وصولاً إلى البيوت. ويمكننا القول إن العنوان بات يستخدم بشكل بارز في المدن الحديثة وكان ينتقل من الكل إلى الجزء.
وحتى ندرك مدى فاعلية العنوان باعتباره علامة دالة ذات مغزى يختزل كثيراً من المعلومات الضرورية عن المكان في ثقافتنا المعاصرة، يظهر لنا ذلك حين نتأمل فاعليته في المدونات الضخمة كالموسوعات والكتب الكبيرة. وقد تطور العنوان باعتباره علامة فارقة ليشمل المكان المتخيل في المدونة الكبرى التي بتنا نطلق عليها الفضاء السوبر نطيقي. كما يمكننا ملاحظة عدم قدرة الأفراد على التجوال في المدونة الإلكترونية من دون استخدام العناوين، والروابط التي تتبعها، وبالتالي تحس الحاجة الضاغطة للعنوان في العالم الحديث، فالأديب والمؤسسة الأدبية والثقافية لها عدة عناوين بريدية، وإلكترونية ومكانية تتعلق بتواجد مقر المؤسسة.
دروب للعناوين
ومنذ أن دخل العرب عصر التدوين حاولوا إبراز أهمية التبويب والتصنيف، فكانت المدونات الشعرية تصنف بحسب اسم الشاعر الذي يوضع على الديوان، وكأن اسم الشاعر يعتبر عنواناً للديوان «ديوان المتنبي». ثم رتبت القصائد استناداً إلى حرف الروي، بعد أن استقرت المعاجم على ترتيب الحروف الأبجدية كما هي متداولة حالياً، فصاروا يقولون «دالية طرفة»، و «بائية أبي تمام». ولما كان الشاعر يكتب قصائد تتشابه قافيتها، اضطر المصنفون آنذاك إلى إضافة مطلع القصيدة لتحديدها بشكل لا يدع مجالاً للبس بحسب اعتقادهم، فيقولون: «دالية المتنبي» (عيد بأي حال عدت يا عيد... الخ).
ثم انتقلت الظاهرة وتطورت من خلال التجديدات المتلاحقة في تدوين الشعر العربي. ويمكن أن نلمس أسماء لدواوين مختلفة لإيليا أبي ماضي «تبر وتراب»، «الخمائل، الجداول»، أو أسماء تستطيل بعض الشيء. وبدأت القصائد تأخذ عناوين خاصة بها، ولعل العلاقة بين القصيدة وعنوانها، كانت في البدء ذات صلات خارجية تتعلق بالمعنى الإجمالي للقصيدة، (بين الحجاب والسفور... الخ) في الفترة الإحيائية. ثم انتقل تقليد عنونة القصيدة إلى قصيدة التفعيلة، التي دفعت وطورت العنوان إلى الأمام. ولربما كان ظهور عنوان القصيدة بشكل طاغ على بنية التوابع في اللغة. وكانت تشتغل في أفق مقاربة المتباعدات «جرح الرعد»، وربما حمل العنوان من نثار القصيدة وهي تتماوج في حركتها الفنية كلمة أو جملة ترد في ثناياها أو في آخرها أو تتردد في مقاطعها، حيث كانت العلاقات الداخلية هي التي تهيمن على العنوان (أنشودة المطر). ولعلنا نرى ملمحاً يتعلق باسم الديوان الذي عادة ما يحمل اسم إحدى القصائد المدرجة فيه، وهو تقليد فني موجود في النثر وتحديداً في القصة القصيرة. ونشير في هذا السياق إلى ذلك الانتباه الذي مارسه محمود درويش وهو من كبار شعراء التفعيلة العرب، بجعل الكلمة الأولى من القصيدة عنواناً لها، كما في «أحد عشر كوكباً»، وهو تقليد قديم في التدوين الشعري حاول الاستفادة منه ببعثه كما حاول أدونيس في الكتاب، من العنوان حتى الهوامش.
لب النثار
وفي تناولنا للعنوان بالنسبة لقصيدة النثر نستطيع القول إنه لعب دوراً مركزياً يشارك بؤرة القصيدة حركتها ومثل في بعض الحالات تقاطباً متناقضاً معها بحيث يعلو مع حركة القصيدة مكتنزاً دلالات جديدة مع إعادة القراءة. كما أنه يتم التركز على دور عنوان القصيدة في بنيتها المضمونية، مع انفتاح الإمكانيات لتقلص العنوان إلى مجرد رقم بحيث يلعب عنوان الديوان الدور المركزي في كونه عنواناً لكل القصائد التي يحتويها الديوان. ولعل ما يعطي معنى لذلك هي البنية المكتملة للقصيدة من جهة، وظهور تلك الظاهرة المتمثلة في الدواوين التي تعتمد على التقاط قيمة واحدة لتشتغل عليها كل قصائد الديوان من جهة أخرى. ولعل تقليد اختيار اسم للديوان قد نقل باعتباره تقليداً شعرياً مشتركاً بين الدواوين التي حوت قصيدة التفعيلة والدواوين التي تحمل قصيدة النثر، وهو مظهر آخر من مظاهر ما سمي بتقاليد الشعرية العربية.
العدد 4067 - الجمعة 25 أكتوبر 2013م الموافق 20 ذي الحجة 1434هـ