تخيّل المواطن المحترم نفسه طفلاً في مرحلة الروضة أو الابتدائية، ربما عندما استدعاه أحدهم إلى مجلسه ليأخذ بيده إلى طريق الصلاح والفلاح والمواطنة الصالحة، وليعلمه ما الفرق بين حب الحكومة وكره الحكومة! وما الفرق بين أن تكون مخلصاً أم خائناً، حتى إذا طال به المقام مع ذلك الشخص، هبّ المواطن المحترم واقفاً قائلاً لذلك الرجل: «يا هذا، أتعبتني وأتعبت نفسك... أنت أولاً إذهب وتعلّم ما هو الفرق بين حب الأوطان، وهو الأساس لكل الشعوب، وبين حبّ الحكومات، التي تذهب في ستين داهية، فكل الشعوب تحب أوطانها وليس بالضرورة أن تحب حكوماتها. شفيك إنت... ميهل».
ومع ذلك، فالمواطن المحترم بدا مستغرباً مما يصر البعض على تبيانه للآخرين، وكأنهم أوصياء على الناس يعلمونهم ما يتوجب عليهم أن يقوموا به. ذلك المواطن المحترم يحتقر أولئك الذين يتاجرون بحب الوطن والولاء والانتماء بفكر مجوف ودوافع مصلحة شخصية، حتى أن الكثيرين من المغفلين يضعون أولئك التجار في المقدمة حين يتابعون أكاذيبهم ونفاقهم وتلونهم، ويعرضون بضاعتهم الخسيسة على حساب الوطن والمواطنين، وللأسف، يجدون من يشتريها!
تذكر تلك الشخصية التي وضعها الناس على رؤوسها نظير ما تعمل وتجتهد وتدافع عن الوطن وعن ولاة الأمر، وأنها تبذل الغالي والنفيس في سبيل الدفاع عن الوطن وأهله، وعندما تسرّب ما تسرّب، وعلموا أن تلك الشخصية كهاتف العملة، لم ولن تتحدث إلا بالدفع المسبق، وعندما علموا بأن الهبات والأعطيات وآلاف الدنانير دخلت في جيبها، بصقوا عليها أعزكم الله واستصغروها، ومع ذلك بقيت جوقة المغفلين ذوي العقول الصفيحية يقولون: «شعاد... تستاهل! أهم شيء أنها تدافع عن الوطن! خل تاخذ فلوس نظير عملها»! فيتحوّل الموضوع لديهم إلى متاجرة باسم الوطن، وهي متاجرة مقبولة ومباركة ومثاب عليها صاحبها، وكأن الدفاع عن الأوطان، وفق تلك العقلية السخيفة، يلزم بلا بأس ولا مانع، أن يكون مدفوع الثمن.
ذات يوم، أحب المواطن المحترم أن يتحدّث مع واحدٍ من أولئك المتاجرين. توجّه إليه بصفته كاتباً صحافياً كبيراً ذائع الصيت والشهرة، فطلب منه أن ينقل معاناته بسبب ما يواجهه من ضيق في حياته المعيشية، فما كان من ذلك الكاتب العظيم حتى استقبله بالأحضان ووعده خيراً. انتظر المواطن المحترم وانتظر أن يرى من ذلك الكاتب ولو سطراً واحداً ينقل فيه معاناته لكنه لم يجد! تهرّب واختفى وصدّ إلى أن كلّمه هاتفياً متسائلاً عن عدم نشر موضوعه، وإذا بذلك الكاتب يصدمه بالجواب: «هناك قضايا تزعج طويلين العمر... شفيك إنت.. ميهل».
ذهب إلى آخر يسرح ويمرح ويصول ويجول في الإدعاء بأنه رهن إشارة المواطن، فما صار نائباً إلا لخدمة الوطن والمواطنين. هو يحب أن يظهر أمام الملأ وكأنه الوحيد الموالي والمحبّ لولاة الأمر، وهو الوحيد الذي يحمل لواء الدفاع عن الوطن والذود عن مصالح المواطنين (جميعاً دون استثناء كما يكرّر دائماً باعتباره نائباً لشعب وليس لطائفة)، لكن كيف أجزم بأنه الوحيد في هذه الفضائل والمناقب؟ فهو الفريد من نوعه، ولا يوجد «نائب» يمتلك من الشجاعة والجرأة والنبل والدفاع عن الحق مثله! يعمل ليل نهار على خدمة الوطن في «مطبخ مليء بالوجبات الدسمة» التي تجعل أهل البلاد كلهم يتناولونها، بل تخرج عن مائدة الوطن لتصبح مائدة إقليمية... وكل طبخة، أفضل من سابقتها قطعاً. استقبله بالأحضان ووعده خيراً! لكنه كغيره، من المتاجرين بحب الأوطان، لا يعمل إلا لنفسه ولأهله ولقومه فقط، أما نشيدة خدمة المواطنين، فهي من أفضل وأكثر أنواع الأهازيج الكريهة المنتشرة بين المغفلين.
المواطن المحترم ضجّ وملّ من كل هذه الصور القبيحة السيئة، وملّ أكثر ممن يروّج لهم ويقبل بأن يكون لهم مداساً ومطيةًً ليصعدوا على ظهورهم، لكنه مع ذلك خاطب نفسه قائلاً: «أهم شيء الأخلاق... والسلام ختام».
إقرأ أيضا لـ "سعيد محمد"العدد 4067 - الجمعة 25 أكتوبر 2013م الموافق 20 ذي الحجة 1434هـ