دعونا نبدأ بهذه المقدمة. في حاضرنا، فإن جغرافيا العالم تتوزع على ست قارات كما هو معروف. وإن عَدَّ بعض الجغرافيين أنتاركتيكا قارة فهذا يعني أن هناك سبع قارات كحدِّ أقصى، تصل مجموع مساحتها إلى 150,428,500 كيلومتر مربع، من أصل 510,065,600 كيلومتر مربع، هو مجموع مساحة الأرض برمتها كما ذكر الباحثون الجغرافيون.
قبل العام 1492م، لم يكن هناك (في علم البشر في العالم القديم: آسيا، إفريقيا وأوروبا) شيءٌ اسمه أميركا الشمالية، ستمنح الأرض رقعة من اليابسة تصل إلى 24,709,000 كيلومتر مربع. وبعد ذلك بسنوات قليلة، لم يدر أحدٌ أن هناك أرضاً ستسمَّى أميركا اللاتينية، ستضيف إلى مساحة الأرض (الأصلية) 17,818,508 كيلومترات مربعة أخرى.
وقبل العام 1606م لم يكن يعلم أحدٌ أن هناك أرضاً تسمى استراليا، ستزيد من كتلة الأرض المرئية 7,617,930 كيلومترا مربعا أخرى. وقبل العام 1821م لم يكن يتخيل جون دافيس بأنه سَيَطَأ أرضاً ستسمَّى لاحقاً أنتاركتيكا، ستكون إضافة لليابسة الأصلية والمكتَشَفَة، بمقدار 13209000 كيلومتر، ليكون مجموع مساحة اليابسة كما نراه الآن.
هذا يعني، أن العالم كان صغيراً. وربما كان أصغر مما نتخيَّل. بل إننا وعند تجريده قبل اكتشاف القارات الأربع المشار لها، سنرى أن الثقل الإنساني الأكبر قد وُجِدَ في آسيا، أكثر مما كان موجوداً في أوروبا وإفريقيا، ووُجِدَ معه الإرث الفكري والديني الهائل، الذي يصيغ ديانات ومعتقدات الإنسان في حاضرنا، وهو في الحقيقة، جوهر حديثي في هذه المقالة.
لقد كان الشرق، ومنطقة بلاد ما بين النهرين، ومنطقة سورية مهداً لحضارات وبقايا إنسان النياندرتال، التي تعود لخمسة وستين ألف سنة. وعندما كان الحال كذلك، ظهَرَت المعتقدات والديانات التوحيدية والأرضية كأكثر المؤثرات عمقاً في كيان البشر.
في الجانب الآخر من المعادلة، وفيما خصَّ التكوين البشري، فإن الاستغراق في الخيال الأوسع، سيحيلنا إلى أصلنا نحن البشر، والذي هو عبارة عن أب واحد وأم واحدة (آدم وحواء). ورغم أن بيننا وبين الأب الأول، جنس نورماندي، وآخر ألبي، وثالث هندي، ورابع مغولي وخامس زنجي، إلاَّ أن كل تلك السلالات ما هي إلاَّ حلقة اتصال طبيعية بالأب الواحد والأم الواحدة، فرضتها ظروف البيئة والوراثة، والتعقيدات الجينية لا أكثر.
إذاً، مثلما يُقلِّص التاريخ الجغرافيا، يُقلِّص صورة البشر أيضاً. فالمنطق يقول، ان سبعة مليارات إنسان في هذا العالم هم جميعاً اخوة في الدَّم، قبل أن يختلفوا شِيَعَاً، فيصبحوا اخوة في الدِّين، أو نظراء في الخلق، ثم وبسبب شرور النفس الأمَّارة بالسوء، إلى أعداء في الإنسانية، في أكثر لحظات البشرية بؤساً، بتبارز الاخوة قبالة الاخوة، يغرس كلّ واحد منهم رمحه في قلب الآخر. هذا باختصار عالمنا، وهذه ببساطة جغرافيتنا الصغيرة.
اليوم، يريد بعض الجَهَلَة (كما فُعِلَ في السابق) أن يجعل من البشر (الاخوة) جوقة من المجرمين. ويجعل من هذه الأرض (الصغيرة التاريخية) حصوناً مُسوَّرة، تتبادل النبال لهيب النار. ويجعل من المعتقدات (المتعايشة) مافيات تزايد على بعضها في الطهر والنقاء. إنه لأمر غريب، أن يتقاتل الاخوة، على حماية أديان هي في أصلها حرَّمت الدم، وهَتك العِرض، وسلب المال وسبي النساء.
ما نراه اليوم، من استهداف أعمى للأديان المتغايرة، لهو أمر خطير؛ لأنه يبدأ بهذا الشعار، ولا ينجلي إلاَّ بحرق الأرض (الصغيرة) وقتل النفس البشرية (المتآخية)، وهتك اسم الجلالة التي يُنادَى به زوراً وسط تلك المحرقة. ديانات وطوائف وأعراق، سَكَنَت هذا الشرق، منذ مئات بل وآلاف السنين، ولم يُعرَف عنها إلاَّ الابتعاد عن الضوء، وعدم الاعتداء على غيرها، باتت اليوم، هدفاً للقتل السهل على يد التطرف الأعمى، ولدواعٍ بائسة ومريضة.
وقد أفاض العراق علينا بعد احتلاله في العام 2003 من الأميركيين، شيئاً من مخفيات هذا الاستهداف المجنون. فمن بين أتون الإرهاب الذي يضرب بلاد الرافدَيْن صباح مساء، صرنا نسمع عن ديانات لم تكن ظاهرة من قبل: الشَّبَك، الصابئة المندائيون، الأزيديون. وهي جميعها ديانات وأعراق ليست ممتدة، لكنها نالت من عنف الإرهاب الحاقد الكثير.
اليوم، تقتضي السلامة الاجتماعية، والغيرة الإنسانية، أن نقوم بقراءة تاريخ محيطنا، والاطلاع عليه لا للفضول، بل لحماية حقنا وحقوق الآخرين من الغلو والقذف. وخصوصاً، أن كثيراً من الاجتهادات المرتَجَلة، بدأت تسري هنا وهناك، ويأخذها البعض على أنها حقائق ومُسلَّمات. مثل هذه السفاسف قد تؤدي إلى إنشاء نظام معلوماتي مغلوط ومُشَيطن، يفضي لاحقاً إلى تجاور ديني/ طائفي/ عرقي موتور ومتصادم.
مؤخراً، قرأتُ خبراً محزناً عن رغبة خمسين ألفاً من مسيحيي سورية للهجرة إلى روسيا (باعتبارها مهد المسيحية الشرقية المتماثلة مع مسيحية الشام) هرباً من استهداف التطرف لها. وقبل ذلك، ما حَلَّ بمسحيي العراق من دمار وقتل، دَفَعَهم للهجرة والتشتت. وهو حال يسري أيضاً على عديدٍ من الديانات الأخرى. إنها مذبحة إنسانية رهيبة، يجب أن تتوقف.
في هذه اللحظة الفارقة من تاريخ هذه المنطقة، يجب ألا يتحدث أحد إلاّ عن القدرة على التفاهم، أو كما يُسمَّى اليوم في فقه الأديان بالتعايش، والقضاء على هذه الثقافة الإقصائية/ الإلغائية، التي لم يفعلها حتى المجتمع الجاهلي قبل الإسلام، والذي لم يشهد صراعاً على أساس ديني (كما أثبتت ذلك هالة الناشف في دراستها لطبقات ابن سعد قبل أربعين سنة) فكيف بنا ونحن نعيش العام الألفين وثلاثة عشر بعد الميلاد!
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4067 - الجمعة 25 أكتوبر 2013م الموافق 20 ذي الحجة 1434هـ
شكرا
مقال رائع
بالاشارة الي ذكر الكاتب يجب ألا يتحدث أحد إلاّ عن القدرة على التفاهم، أو كما يُسمَّى اليوم في فقه الأديان بالتعايش، والقضاء على هذه الثقافة الإقصائية/ الإلغائية،
يتبع..زائر 5
وكلمة يلوكها الإنسان بلسانه ويفخر بها بملء فيه. نعم نحن في حاجة للحظة تفكير ونحن ما أحوجنا لمفكرين يطرقون هذه الابواب في نقد ومراجعة وضع الامة البائس
بالاشارة الي ذكر الكاتب يجب ألا يتحدث أحد إلاّ عن القدرة على التفاهم، أو كما يُسمَّى اليوم في فقه الأديان بالتعايش، والقضاء على هذه الثقافة الإقصائية/ الإلغائية،
نذكر بالآية الكريمة في قوله تعالي {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىظ° وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا غڑ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ غڑ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}..قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على اللّه تعالى من الجعلان) الخلاصة :ان الابتعاد عن فهم الدين الصحيح هو بيت المشكل وصرنا نعتبر أن الدين عقيدة دون عمل، وفكرة دون تطبيق..
الحقيقة واضحة والإنسانية قبل كل شيء
أحسنت أستاذ محمد على مقالك الرائع. حلقت بين التاريخ والجغرافيا وعلم الإجتماع والوراثة والسياسية في توازن إبداعي. الإنسانية هي الأصل ولكن التطرف الأعمى هو المسيطر اليوم على عقول البعض. مقالك قد ينير الدرب لبعضهم
د. حسين مهدي
المعلومة
أهم في مقالات الكاتب القدير محمد عبدالله أنها تشتمل على المعلومة واللغة والأدب والتوازن وهي مطلوبة في هذا الزمن المر
اضيف كدلك
الموضوعيه والدقه وبرغم زحمة المعلومات الا ان القارئ يبقي ممسكا بتسلسل المقال ومستمتعا بما يقرأ . استاد محمد انت تستحق منا الشكر والأحترام .