العدد 4065 - الأربعاء 23 أكتوبر 2013م الموافق 18 ذي الحجة 1434هـ

اليوم العالمي لـ «التَّأتَأَة»

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

ليس عَجَباً أن نعرف، بأن هناك يوماً عالمياً لـ «التَّأتَأَة»، حُدِّدَ في الثاني والعشرين من أكتوبر من كل عام! وللعلم، فإن التَّأتَأة كما جاء في قواميس اللغة (لسان العرب، العباب الزاخر والقاموس المحيط وغيرها) تعني حكاية الصوت، فنقول: رجُلٌ تَأْتاءٌ، يَتردَّدُ في التاء إِذا تَكلَّمَ. ومنها، جاءت التسمية، للذين يعجزون عن النطق السليم، بتردُّد الحرف والكلم.

وحين تَنطق جَمهرةٌ من الناس بشكل سليم، فهذا لا يعني أن جميع الخلق كذلك. وعندما يكون لسان الكثيرين طَلْقٌ غير مُتلجلج، فلا يشعرون بحرج في حديثهم مع الناس، فهذا لا يعني أيضاً، أن مَنْ يُعانون من تلك الحالة، هم بشرٌ لا يُكابدون للظفر ببيان الحديث، ومجانبة الحرج، وفعل المستحيل كي يتخلصوا من هذا الداء اللساني.

ولأن هناك عشرات الأيام العالمية والمحلية، التي يحتفل بها العالم كل عام، كالسلام، الأمية، البيئة، المرأة، التمييز، الأم، الأرصاد الجوية، الشعر، المياه والصحة وغيرها من العناوين، فقد أعطِيَ مَنْ يُعانون من مشكلة التَّأتَأة، يوماً وعنواناً كباقي الأيام والعناوين، يتم فيه طرح البرامج والدراسات العلمية الحديثة، المعالِجَة لتلك المشكلة.

والحقيقة، أن ذلك اليوم العالمي للتَّأتَأة يعني الجميع، كونه يخص جزءًا من كلنا، التي تجمعه مشتركات الآدمية، على اعتبار أن التعاطف الإنساني لا يحدُّه شيء. لكن (وهي زاوية الحديث الذي أنا بصدده) ذلك العنوان (التَّأتَأة) ليس محصوراً في «حكاية الصوت، والتردُّدُ في التاء إِذا تَكلَّم» بل في مظاهِر سلوكية أكثر عمقاً من كونها عضوية.

وما أعنيه بذلك، أن في عالم البشر تأتَأة في غير اللسان أيضاً! نعم... لقد بيَّنت التجارب، أن التَّأتَأة الأخطر هي تأتَأة التفكير، وبالتالي تأتَأة القلم! ولأن اللغة ضوء العقل كما قال جون ستيوارت ميل، فإن تلجلج العقل وتلعثمه نتيجة انهزام قضيته، لن يُفضي إلاَّ إلى لغة عرجاء مهيضة الحجَّة، لا تقوى على طرح صحيح القول، وتكريس الوقائع، ففاقد الشيء لا يعطيه.

وربما نَجِدُ ذلك المشهد البائس، متحققاً في الدفاع عن القضايا الخاسرة، عبر أقلام مكسورة، لا تكتب إلاَّ الممجوج من الكَلِم، المدافع عن الكذب وبه، رغم فساده، وأيضاً عبر أفواه مأجورة لا تنطق إلاَّ بالشتيمة والسباب، وتجزئة المجموع الملتئِم. وقد ثبت، أن العقول النَّيِّرة، لا تفهم مثل هذا المنطق الأعوج، كونه تأتَأةً عصيَّةً على الفهم، فلا يمكنه الولوج حتى إلى عظم السمع.

هؤلاء مع شديد الأسف، لا يُحسنون اختيار معاركهم، ولا أدواتهم ولا قضايا تلك المعارك العبثية. السبب أنهم يستغرقون في عنوان «الأنا» والمصلحة الخاصة، والأمراض الاجتماعية، من الرأس حتى شحمة الأذن. وعندما تصل الأمور إلى هذا الحد، لا يبدون أكثر من جوقة مهرِّجين، يضحك الناس على تقافزهم وهرائهم.

كل مَنْ اشتغل بالقضايا السياسية والفكرية وخلافها، سيجد أن القضايا الممهورة بالعدالة، لا يمكنها أن تنتكس لسبب وجيه وأساس، وهو انسجام كافة مراتبها المتسلسلة، بدءًا بالشعار، ثم الشعور، ثم اللغة التعبيرية، (ثم الأهم) انسجامها مع السليقة والضمير الإنساني الحي. وهي في الحقيقة، تمثل قوة طبيعية دافعة وذاتية، لا تحتاج إلى مُعضِّدات خارجية أكثر مما هو موجود.

وحتى لو تلعثمت اللغة المعبِّرة عنها، فإن المدماك العملي يُنجدها، وإفاضات الضمير عليها تقويها، كونها قضية عادلة، مكتملة الأركان، وبالتالي تهفو إليها قلوب الناس «الأحرار» وتتعاطف معها بشكل آلي، ودون تردد. وقد صَدَقَ الفيلسوف الألماني جيورج فيلهلم فريدريش هيغل عندما قال: «الحقيقة في الفلسفة تعني تقاطع النظرية مع الواقع الخارجي».

لو كانت اللاحقائق، تثبت ويتيقنها الناس من خلال الأقلام المكسورة والأفواه المأجورة، لماتت الحقيقة واضمحلَّت، وبالتالي اختلت توازنات الحياة، القائمة أصلاً على النظام والحقائق الثابتة وليس على الباطل والأكاذيب. فالكذب يبقى عكس الحقيقة لا داحضاً لها، أما عكس حقيقة شاملة لا يمكن أن يكون إلاَّ بحقيقة شاملة أخرى كما قال عالم الفيزيائي الدنماركي نيلز بور.

عندما أقرأ بعضاً من «كتابات التَّأتَأة الفكرية» أصَابُ بالعجب، لا لكونها منتهى العقل الغائب أصلاً عنها، بل من أصل صدورها عنها حتى، وجعلها منشورةً على قراطيس الصحف الصفراء! ثم أتساءل: كيف لهذا الهراء أن يهزم بيان الحجَّة والمنطق في عالمٍ بدا مكشوفاً من شرقه إلى غربه في كل شيء؟ إنه أشبه بكرنفال الجنون، الذي تضحك الناس على مَنْ فيه.

هؤلاء الجهلة المتتأتئون عقلياً، لا يمكن الاستكانة إليهم في إثبات أنهم ليسوا حمقى، فضلاً عن أن يُثبتوا حقيقة ما. وهو أمرٌ يدعو للعجب، أن يتم الاستعانة بهؤلاء المتتأتئين. وربما يجعلنا هذا نفكّر، أن لجوء البعض إلى هكذا جوقة، يُظهِر عجزهم عن استقطاب وإقناع مَنْ يُعتَبَرون من ذوي الحِجا، فَجَرَّهم ذلك للجوء نحو غَثّ العقول، والضمائر الميتة، لتُسلَّم القوة المادية، بغية تكريس عالَمٍ كاذب منافق لا يفهم الفرق بين البِرِّ والبُر.

وربما أذكر شيئاً من التراث هنا، وهو ما نُقِلَ عن المأمون العباسي عندما قال لثمامة بن أشرس المعتزِلي:

ما جهد البلاء يا أبا معن؟

قال: عالِمٌ يجري عليه حُكم جاهل.

قال: من أينَ قلتَ هذا؟

قال: حَبَسَنِي الرشيدُ عندَ مَسْرورٍ الكبير، فَضَيَّقَ عليَّ أنفاسي، فسَمِعتُهُ يوماً يقرأ: ويلٌ للمكذَّبين بفتح الذال.

فقلتُ له: لا تقل أيها الأمير هكذا، بل قُل: ويلٌ للمُكذِّبين، وكَسَرتُ له الذال، لأن المكذَّبين (بالفتح) هم الأنبياء .

فقال: قد كانَ يُقال لي عنكَ أنكَ قَدَرِي (مُعتَزلي) فلا نجوت أن نجوت اليوم، فعَاينتُ منه الموت من شدَّة ما عذبني.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4065 - الأربعاء 23 أكتوبر 2013م الموافق 18 ذي الحجة 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 2:02 ص

      مصائبنا في هذه

      عالِمٌ يجري عليه حُكم جاهل

    • زائر 3 | 12:55 ص

      متابع

      نرجوا من الكاتب القدير أن يكتب لنا مقالات تتناول الأمور التالية : 1- قضية النفط الصخري في أمريكا و تأثيرها على امريكا اقتصاديا و على علاقاتها الاقتصادية و السياسية مع العالم و الدول النفطية بالأخص ، وأخص من ذلك الخليج ( هل صحيح أنها ستتخلى عن الخليج قريبا بسبب ذلك ؟ ) ...... 2- سوريا : الواقع الميداني ، أين تسيطر المعارضة تحديدا و أين يسيطر النظام ؟ بغض النظر عن التهويل الاعلامي لكلا الطرفين ، و أيضا من يتقدم الآن عسكريا و سياسيا ؟ أم أن الوضع شبه ثابت ؟

    • زائر 5 زائر 3 | 2:46 ص

      عفوا

      اكاد اري الاستاد محمد يبتسم لهدا الطلب . شكرا ياستاد علي هدا المقال الدي ارجو ان يكون فيه بعض العلاج للتأتأه.

    • زائر 2 | 11:53 م

      ابداع!

      سلمت يداك استاذ وابعد عنك شر المتاتئين عقليا

    • زائر 1 | 11:40 م

      في الصميم

      شداني العنوان يا محمد لكن صدقت فيه في الصميم

اقرأ ايضاً