كيفما قلّبت صفحات الجرائد، وحيثما استمعت إلى محطات الإذاعات وقنوات الشاشات الصغيرة، فلن يطالعك على أيامنا هذه من أخبار القتل بدم بارد والموت غير الرحيم والانتحار الفردي والجماعي والاعتداء السافر على الأجساد والأرواح إلاّ ما حفلت به ديارنا العربيّة «الأبيّة»، أي التي تأبى الظلم وتجرّم الاعتداءات وتدين الانتحارات وتحرّم قتل النفس إلاّ بـ «الحقّ». وآه من كلمة حقّ، كم صارت فضفاضةً يركب عليها القاصي والداني والجاهل والعالم! وكم من باطلٍ ارتكب بحجة الدفاع عن الحقّ!
لقد كانت بؤر التوتّر في العالم في النصف الثاني من القرن العشرين، أي بعد الحرب العالمية الثانية وإبّان الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي، منتشرةً في شتى أصقاع العالم بحكم الصراع على مناطق النفوذ بين القوى العظمى في العالم؛ فكنتَ تسمع عن الحروب في بعض الدول الآسيوية (باكستان، الهند...) أوروبا الشرقية (يوغسلافيا، ...) وفي جنوب القارة الأميركية وخصوصاً في إفريقيا السوداء حيث كانت الصراعات القبلية والدينية تودي بحياة المئات بل الآلاف بين عشية وضحاها. وكذلك لم نَعدم، نحن العرب، حروباً دموية عربية إسلامية؛ فحرب لبنان ثمّ حرب العراق وإيران وما حدث في الجزائر من اقتتال في التسعينيات من القرن الماضي، ليست عنّا ببعيدة في الزمان ولا في المكان... وهذا يعني أنّ العربيّ يعزّي نفسه بأنّ ما يحدث آنذاك في بلاد العرب ليس استثناءً عن بقية بؤر التوتر في العالم.
أمّا اليوم، وقد استقامت أو كادت الديمقراطيات في بعض دول العالم وخصوصاً في آسيا وإفريقيا السوداء، واهتدى المختصمون إلى آليات أممية لفضّ النزاعات سلميّاً، وانطفأت جذوة الحرب الباردة نسبياً... اليوم، ليس عسيراً عليك أن تلاحظ انتشار القتل والانتحار والحروب بكل أشكالها في ديار العرب لا غير: فتن وحروب عبثيّة وتخلّف وتوظيف ماكر للدين؛ ففي سورية في عاصمة الحضارة الأموية في حاضنة العلم والعلماء قديماً وحديثاً، مجازر وتنكيل، نهب وخطف، سلب وتشريد، اقتتال بين المعارضة والنظام وتصارع دوليّ يدفع ثمنه أبناء الشعب السوريّ. فمنذ اندلاع «الثورة» في سورية لم يمرّ يوم دون أخبار قتل وأنباء عن موت وذبح و... وفي مصر، مصر الحضارة والتاريخ العريق، مصر التي لطالما عرفت، وخصوصاً في أواخر القرن الماضي، بدورها في بسط السلام ورعاية محادثات السلام بين الغريمين التقليدين الكيان الصهيوني ودولة فلسطين بكل فصائلها وأطيافها، في القاهرة، نعم في قاهرة العالم قديماً وحديثاً، يتحوّل حفل زفاف أمام كنيسةٍ إلى مأتم؛ موتى وجرحى وفوضى، فحتى حفل الزواج لم يعد يسلم، وهذا آخر ما سمعته من أخبار قبل كتابة المقال. لكن كم من حفل زواجٍ تحوّل في بلاد الرافدين إلى مقبرة جماعية بفضل بطولات الانتحاريين عناترة العرب الجدد! آه يا عراق، ثمّ آه يا شوارع بغداد العلم والأدب وبطولات العرب! كيف صرت مسرحاً للتفجيرات الطائفية البغيضة؟ كيف تفجّرت فيك قريحة أبنائك اليوم عن أساليب جديدة من القتل حتى صار الموت اليومي حدثاً عادياً وسمةً طبيعيةً والعكس هو الصحيح؟
والقائمة تطول والقتل يصول ويجول، في ليبيا، في اليمن «السعيد»، في السودان الشقيق، في الصومال، في تونس الخضراء. آه يا جبال الخضراء كم كنت كعبةً للسياح ومعبداً لعشاق الطبيعة النقية وملهماً للشعراء من أبي القاسم الشابي إلى نزار قباني... صرت اليوم مأوى لزمرةٍ من الإرهابيين يعكرون صفو إرادة شعب في مرحلته الانتقالية من الديكتاتورية إلى الديمقراطية. وآهٍ يا بلاد العرب من الخراب الذي يحلّ بك اليوم!
أيكون لسان العلامة ابن خلدون على صواب حين قال: «أينما حلّ العرب حلّ الخراب»؟ ألا يمكن أن يكون الإنسان العربي، بمعنى يثبت كيانه ووجوده، إلاّ بإقصاء الآخر ونفيه من الوجود مهما كان هذا الآخر: أخاً في الإنسانية أو أخاً في الوطن أو أخاً في الدين أو أخاً في القومية أو..أو.. أليس هناك سبيل آخر لإثبات الذات غير القتل والتخريب والتدمير والتفجير والقائمة تطول ولا فخر ولا حصر!
ألا يمكن أن يثبت العربي ذاته بإثبات استحقاقه للديمقراطية؟ ألهذا الحدّ تتعارض الديمقراطية مع بعض الأفكار الدينية حتى يلجأ البعض باسم الدين إلى القتل بدم بارد، إلى قتل من كان بالأمس القريب رفيق نضاله ضدّ الديكتاتوريات التي كانت قائمة؟ ألا يمكن أن نصدر صورةً أجمل إلى العالم؟ بدل أن نملأ شاشات التلفاز وصفحات الجرائد والمنابر الإعلامية بمشاهد الموت اليوميّ؟ ألا يمكن أن نسوّق في العالم صورةً أجمل للربيع العربيّ؟ أم كتب علينا أن نبقى كما كنا في نهاية القرن العشرين مسرحاً تتحقق فيه شهوات الطامعين؟
في لهيب هذا الوضع المتأزم، وفي خضمّ هذا الموج الهادر، وتحت سماء المدن العربية خليطٌ من الضحايا، لكنّ أبرز ضحايا الحروب المذهبية والطائفية هي العروبة؛ هذه الهوية القومية الجامعة تتمزّق إرباً إرباً، تلفظ أنفاسها، تتبرّأ منّا وهي تحتضر وتنتظر ربما أجيالاً وأجيالاً أخرى قد تعيد لها رونقها وترفعها عالياً من جديد.
متى ذلك؟
حين نتعلّم ونستوعب الدرس جيداً، وتعتبر سورية مما حدث في لبنان، وتستفيد تونس مما حدث في الجزائر، ولا تعيد مصر تجربة العراق المريرة، ولا تتكرّر في ليبيا تجربة السودان. نعم حين نتعلم أن نختلف مع بعضنا دون أن نتقاتل، فمن حقنا أن نختلف لكن ليس مسموحاً لنا بكل شرعات العالم أن نتقاتل. من حقنا أن تتباين آراؤنا ومواقفنا السياسية ولكن ليس من حقنا أن نحوّل الاختلاف إلى خلاف، والخلاف إلى حروب، والحروب إلى دمار... وبئس العار والشنار.
إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"العدد 4063 - الإثنين 21 أكتوبر 2013م الموافق 16 ذي الحجة 1434هـ
ألا يمكن أن يثبت العربي ذاته بإثبات استحقاقه للديمقراطية؟
بلى يستطيع
وها نحن نرى تونس مثلا تخطو خطوات عملاقة نحو الديمقراطية
والله يوفقهم
يا للعار
يتحوّل حفل زفاف أمام كنيسةٍ إلى مأتم؛ موتى وجرحى وفوضى، فحتى حفل الزواج لم يعد يسلم،
انتم
انتم وارهابييكم الذين دمرتم العراق ، لا جامعه ... ولا رئساء ..ولا كتاب ... رحموا العراق وخصوصا بداية سقوط الصنم الذي كنتم تهللون وتبجحون له ، ساعتموه علي استنزاف ايران والعراق وبعد سقوطعه تريدون ات تكملوا عذاب البلدين الشقيقين
رائع شكرا
وما كتبته وعبرت عنه سليم جدا ورائع.
حقا واقعنا العربي يحتاج الى نظر وتحتاج اقلامنا الى استفاقة لتقوم بعملها من تنوير وتحليل ونقد.
قلِّبْ صفحات العرب!
مقال جميل يدعو إلى التفكير في هذا الواقع العربي المرير
شكرا صاحب المقال
متى ذلك؟
حين نتعلّم ونستوعب الدرس جيداً، وتعتبر سورية مما حدث في لبنان، وتستفيد تونس مما حدث في الجزائر، ولا تعيد مصر تجربة العراق المريرة، ولا تتكرّر في ليبيا تجربة السودان.
براشيم أو أدويه وعقاقير لكن مسحورين بالدنيا!
يقال قلب الحدث – يعني بالمقلوب أو بالمعكوس. فعند ما يحدث شيء لا يمكن للبشر تفسيره قد يلجأ البعض الى الخرافه أو الأساطير لكي يستوعب ما حدث. ما يحدث اليوم في العالم ثوره ضد الظلم والإطهاد. قد لا يقال أن الأساقفه أو الكهنه أو الرهبان من المسلمين لكن أقرب الى الحاخامات. يعني يستعينون بالعفاريت والمرده ليسيطروا على الناس. قال ويش جحا يعني مستور أو مستترون بغطاء دين لكن ليس بدين الله.
مقال رائع
آه يا عراق يا عرب يا كرب