السياسة فُرضت على البحرينيين كقدر سيء، لم يختاروه إنما اختارهم. ما أن يستقر المقام بأحدنا في مجلس أو جمع من الناس حتى تطل السياسة بعنقها البغيض حاملةً معها ظلال اللحظة التاريخية الصعبة التي يعيشها البحرينيون منذ ما يزيد على 30 شهراً بكل ما فيها من إحباط وصدمة وشعور مزمن بـ «الظلامة» التي كانت قبل هذا التاريخ «قضية مشكوكاً فيها» وأصبحت «بعده» من المسلمات لدى قطاع عريض وواسع من الناس.
يعود الشعور العميق بالخوف من المستقبل لدى شريحة واسعة من الناس إلى غياب الإحساس بفكرة «الدولة» و»القانون» المسيّر لها، ومنشأ هذا الخوف وباعثه، هو ميل الأداء الرسمي نحو الممارسة الاعتباطية المبنية على مزاج متبدل أو مصلحة آنية خلافاً لما يتوجب توفره في الشرعية القانونية التي من أهم سماتها كفالتها لما يمكن توقعه. فإن كان المواطن قادراً على تصوّر ما يمكن توقعه، شعر بقدر أقل من التسلط والقهر، وهو قهر سيشعر به إن كانت كل الإمكانيات المستقبلية مفتوحة بيد السلطة تختار منها ما تشاء.
في ثمانينيات العقد الماضي وضع المفكر اللبناني غسان سلامة بحثاً نشره مركز دراسات الوحدة العربية الذي كان يديره يوماً ما، عنوانه «نحو عقد اجتماعي عربي جديد»، وهو بحث في الشرعية الدستورية، وذلك قبل هبوب رياح ما اصطلح عليه بــ «الربيع العربي» بثلاثة عقود. تحدّث فيه سلامة وهو المفكر السياسي الضليع عن ضرورة ما يكشف عنه عنوان دراسته، مؤكداً بأن هناك نوعاً من التوافق الواسع، إن لم يكن الاجماعي، قائم اليوم على الجزم بهشاشة شرعية البنى السياسية الراهنة.
ويورد اقتباسات كثيرة لعل أهمها لعالم الاجتماع المصري سعد الدين إبراهيم الذي يقول فيه إن «الوطن العربي تحكمه أنظمة خائفة ومذعورة، مصدر خوفها وذعرها هو الشك المتبادل بينها وبين شعوبها... حالة الشك والخوف والذعر هذه هي تعبير درامي كئيب عن أهم الأزمات التي تواجه الأنظمة العربية وهي أزمة الشرعية، وبتعبير أدق أزمة تضاؤل الشرعية أو غيابها بتاتاً في أنظمة الحكم العربية».
الاقتباسات التي تضمنها الكتاب، تؤكّد في مجملها على الأزمة التي لا استقرار اجتماعي وسياسي قبل حلها، تلك هي أزمة الشرعية، ولكن ما هي عناصر ومكونات «الشرعية الدستورية»؟
هناك – بحسب ما يستفيض في شرحه سلامة – ثلاثة مكونات أساسية للشرعية، وهي ثلاثية طرحها المفكر الألماني كارل دويتش (ت 1992) الذي يرى أن الشرعية المؤسسية (الدستورية) تقوم على: العنصر الدستوري ومضمونه أن السلطة شرعية لأنها قامت وفقاً لمبادئ البلاد الدستورية والسياسية؛ والثاني هو عنصر التمثيل، بأن تقوم الشرعية على إقناع المحكومين بأن الذين في السلطة يمثلونهم؛ أما العنصر الثالث، فيتعلّق بالانجاز، أي أن الشرعية تقوى من خلال الإنجازات الكبيرة التي تمت للمجتمع على يد السلطة.
هذا يعني أن السلطة الشرعية حسب الأصول الدستورية ومدى تمثيلها للمجتمع يصيبها تدريجاً انحسار واسع، بسبب عدم إنجازها لأية نتيجة ملموسة خلال فترة حكمها. وقد تنشأ سلطات من خارج النصوص الدستورية (عبر انقلاب أو ثورة)، ولكنها تكتسب بعض الشرعية من خلال تمثيلها الأوسع للشعب، أو من خلال قيامها بأعمال جبارة لخدمته. وقد تنشأ سلطات بدون شرعية دستورية، وبدون ادعاء لتمثيل أوسع لفئات الشعب، ولكنها تبني شرعيتها على إنجازات خدمية تكتسب عبرها ومن خلالها التأييد الشعبي. وتحاول بعض الأنظمة التوفيق بين هذه العناصر والمؤالفة بينها.
في الشرعية الدستورية يدخل الحاكم قصر السلطة وفقاً لطرق كان المجتمع قد حدّدها سابقاً لهذه العملية، ومثال ذلك مؤسسة الرئاسة الأميركية والفرنسية، ووفقاً لهذا التحديد الضيّق لمفهوم الشرعية الدستورية، فإن أي انقلاب على الرئاسة عبر ثورة عارمة أو انقلاب عسكري يكون هنا غير قانوني.
أما «شرعية التمثيل»، فالحاكم فيها قد لا يأتي وفقاً لـ «الأصول الدستورية» ولكنه يصل، وبعد وصوله يحاول حمل المحكومين على تناسي لاشرعية الأصول، محاولاً إقناعهم بشرعية جديدة تفوق في محتواها الثقافي والسياسي والايدلوجي شرعية النظام البائد. من هنا سوف يسعى إلى التعبير عن المعطى الجديد بخطاب ملخصه: «قد لا أكون شرعياً تماماً في طرق وصولي للسلطة، ولكني قوي بشرعية تمثيلي لكم». والتمثيل هنا يعني أمرين: «أن يقول الحاكم للمحكومين: أنا منكم، وأن يقول الحاكم للمحكومين: أنا لكم».
أما «شرعية الانجاز» فتقوم على تقليل الاهتمام بموضوعي الأصول والتمثيل، بهدف التركيز على ما تحقق فعلاً على يد من هم في السلطة، بصرف النظر عن مدى الاعتقاد بصحة وجوده في السلطة أو بمدى تمثيله للمواطنين. فالسادات مثلاً يحب أن يسمى «رجل العبور» أو «رجل السلام»، وكان صدام حسين يحلو له أن يوصف بـ «بطل القادسية»، فيما كان القذافي «ملك ملوك أفريقيا»! وقد تنتاب الحاكم فكرة أنه أنجز كيان البلد بنفسه ويطمئن لهذا الاعتقاد.
لعلنا في البحرين بحاجةٍ لما هو أبعد من برلمان لا يمثّل أحداً، ومؤسسات حقوقية فارغة المضمون، وإلى إنجازات تتحدّث عن نفسها ولا يتحدّث عنها أحد، وهي كلها أحلام من يخشى السياسة ويمقتها يوم اصطبغت بالدم في الوقت الذي كانت البحرين قادرةً على صياغة نموذجها المتفرّد في الإصلاح السياسي من خلال «دستور عقدي» ينصف جميع مواطنيها.
إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"العدد 4063 - الإثنين 21 أكتوبر 2013م الموافق 16 ذي الحجة 1434هـ
صحيح
صدقت.. هذه نواتج غياب الشرعية
التطوير المستمر
الأشياء مش معدن! التربية وآخر إنجازاتها من ثقافة عددية ومناهج غريبة وموجهة. أينما تتجه ترى إنجازات ماشاء الله تنسيك أصول الشرعية.
ممتاز
مقال رائع كما عودتنا دوما