اقتصادي مغربي، ومدير المركز العلمي العربي للأبحاث والدراسات الإنسانية بالرباط، المقال ينشر بالاتفاق مع «مشروع منبر الحرية».
«ارتفاع رهيب لكلفة العيش، تضخم الأسعار، الارتفاع المطرد لنفقات الحكومة التي بلغت في الموازنة الأخيرة ما يناهز 11.5 مليار دينار تونسي، تصاعد نسب البطالة التي بلغت حسب مصادر رسمية 10.8 في المئة التي تمس الشباب أساساً». مؤشرات من بين أخرى، تفيد بفشل الحكومة الحالية التونسية في تنزيل شعارات الثورة. أما النتيجة فسقوط المزيد من الشباب التونسي في براثن اليأس وفي فخ الراديكالية والتطرف.
للمعطيات الاقتصادية وجاهتها وقوتها، لكن في زيارتي الأخيرة إلى الجمهورية التونسية مهد الحراك العربي هالني منظر آخر.
في شارع بورقيبة، الشارع المليء بذكريات وقصص الثورة، حيث عدد من الإدارات والمراكز والمنشآت الإدارية والأمنية، تحاصر الأشواك الحادة من كل جانب تمثال المؤرخ العربي الشهير ابن خلدون، وكتيبة من الجيش التونسي تمنعك من التصوير ومن الاقتراب. كيف؟ ولماذا؟
السلطات التونسية (ومعها عدد من السلطات العربية) تمنع الأشخاص من الاقتراب من التمثال، وقوى كثيرة تجندت لشيطنة أعماله والتعتيم على أحد أبرز معالم الثقافة العربية.
فهل تعاقب السلطات الجديدة العلامة على خلاصته الشهيرة، والتي مفادها أن «اتساع الدولة (يفضي) أولاً إلى نهايته ثم تضايقه (أي الاتساع) طوراً بعد طور يفضي إلى فناء الدولة واضمحلالها».
ربما، لكن الأكيد أن ابن خلدون وبباعه الطويل في فض النزاعات التي نشبت بصفة دورية بين الدول من أجل الاستحواذ على السلطة وتوسيع نفوذها في القرن 14 الميلادي، فكك وحلل في كتابه «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» بدقة استثنائية الآليات المسئولة عن تَيَبُسِ جهاز الدول وتَصَلُبِ الحضارات.
خلاصات معايناته ودراساته ومعايشته للممارسات السياسية والحكم وملاحظة طبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني تجعل ابن خلدون معاصراً.
تمنيت والحالة هذه، صادقاً عودة هذا العالم المتخصص في صعود وفساد الدول واضمحلالها لدق نواقيس الخطر ببلوغ موازنات عدد من الدول في عصرنا الحالي الخطوط الحمراء، وبتراكم مديونياتها في مستوايات جنونية، الشيء الذي يُندر بأزمة اقتصادية شاملة Systemic crisis ومساهمته في فض النزاعات والخلافات الانتخابوية والشعبوية الطاحنة القائمة والمتكررة بين الديمقراطيين والجهوريين حول الميزانية الأميركية التي تهدد إذا لم تُحل بانهيار المنظومة المالية العالمية وإفلاسات بالجملة على شاكلة الكساد العظيم لعام1929.
إن أزمات الموازنات المتعاقبة في أميركا منذ بداية القرن الماضي، وما نتج عنه من تراكم المديونية وارتفاع الضعط الجبائي لتغطية العجز وسداد الديون أدى إلى تنامي سخط بالغ لدى شرائح متعددة من المجتمع الأميركي وظهور حركات مناوئة للسياسات الاقتصادية الكنزية للإدارات الأميركية.
ألقت السياسات الضريبية وانفجار النفقات الحكومية والمديونية التي بلغت 17 ترليون دولار أي 73 في المئة من الناتج الإجمالي، ولتغطية هذا الدين يتوجب على كل المواطنين الأميركيين حتى الرضع منهم تأدية 54 ألف دولار أميركي لتغطية ديون الدولة، مما جعل الولايات المتحدة البلاد الأكثر مديونية في العالم.
فقد دفعت هذه الأزمة بعدد من المواطنين في ربيع العام 2009 لمولاة «حزب الشاي» وتنظيم عدد من المظاهرات للاحتجاج على الحكومة الفدرالية التي تمادت في رفع سقف الإنفاق من أجل تمويل عدد من البرامج الاجتماعية كبرنامج التأمين الصحي الجديد التي تروج له إدارة باراك أوباما Obama Care.
كل ذلك علماً أن البلد غير قادر بل يلجأ إلى إعادة الاقتراض لسداد فوائد ديونه وفوائد سندات الخزينة الأميركية المملوكة من طرف المستثمرين الأجانب، وخصوصا الصين التي اشترت قرابة ترليون دولار من سندات الخزينة.
يذكر أن تسمية «حزب الشاي» تجد جدورها في تمرد المستوطنين الأميركيين سنة 1773 على زيادة الضريبة المفروضة على الشاي الذي فرضتها بريطانيا. وهي أيضاً اختصار لـ «Taxed Enough Already» «مفروض علينا ضرائب بما فيه الكفاية».
وتتركز مطالب حزب الشاي في عدة مجالات أهمها إصلاح النظام الصحي أو «أوباما كير» مع العمل على خفض عجز الميزانية الفدرالية ومحاربة فساد النخب السياسية والاقتصادية التي تهيمن على العاصمة واشنطن، مدركين أن الولايات المتحدة استدانت مبالغ لن تستطيع يوماً تسديدها، ويرون أن خفض التصنيف الائتماني للبلاد من قِبَل وكالة «ستاندرد أند بورز» للمرة الأولى من المرتبة AAA إلى AA+ التالية هي بمثابة تحذير من أن الآتي أعظم.
كما ويعملون على الضعط من أجل خفض الضرائب ودعوة الإدارة الأميركية إلى المزيد من الاستقلالية وعدم التدخل الخارجي في شئون بقية الدول لما يترتب عن ذلك من آثار اجتماعية وسياسية كارثية وكلفة اقتصادية مرهقة.
المأزق الذي وضع باراك أوباما نفسه فيه بعد رفع النفقات الحكومية وتوسيع الدعم والإعانات لكبريات الشركات والبنوك المفلسة رغم مسئوليتها الواضحة عن أزمة 2007 المالية، مأزق جعل إدارته غير قادرة على تدبير ميزانية الدولة بشكل ناجع مما حدا به لطلب اعتمادات إضافية وقروض إضافية، جاءت لتفاقم العجز الكارثي لمديونية هائلة.
لكن الإشكال الذي صادفه هو اعتراض الكونغرس الأميركي الذي رفض التمادي في اللجوء للإنفاق، فرفض التصويت بالموافقة على سياسة أوباما.
وضع الأباء المؤسسون للدولة الأميركية ضوابط وصمامات أمان صارمة للحفاظ على توازن السلطة والحد من شطط سلطة الرئاسة والبيت الأبيض، حيث شرعوا سنة 1789 قانوناً يُخضع موازنة الدولة لسلطة ممثلي الأمة المنتخبين، ولا يُنفق الرئيس الحكومة من المال إلا ما يصادق عليه الكونغرس من اعتمادات.
وقد سجل التاريخ الأميركي 17 أزمة إفلاس من هذا النوع أي ما يطلق عليه بـ Shut Down أي «فجوات الإنفاق»، ابتداء من الرئيس جيرالد فورد مروراً بتجيمي كارتر ورونالد ريغن، ثم بوش الأب وبيل كلينتون وصولاً إلى الرئيس باراك أوباما.
المتأمل لتطور موازنات الدول وانفجار مديونية دول كأميركا وإسبانيا وإيطاليا واليونان وقبرص وإيرلندا ولجوئها لاستجداء البنك الدولي وصندوق النقد بعدما كانت حكراً على الدول النامية، لا يملك إلا أن يستحضر روح ابن خلدون ووصاياه بضرورة الحد من نفوذ الساسة والحد من لجوء جلهم عند ممارسة السياسة للتلاعب الشعبوي والانتهازي بأموال الدول وبمصائر العباد سواء في أيام العرب والعجم والبربر أو من عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر!
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 4060 - الجمعة 18 أكتوبر 2013م الموافق 13 ذي الحجة 1434هـ