يردّد المسلمون في أدعيتهم «اللهم إنا نرغب إليك في دولةٍ كريمةٍ تعزّ بها الإسلام وأهله وتذل بها النفاق وأهله». ومن أهم أهداف الإسلام العظيمة إقامة دولة الحق والعدل لجميع سكانها، مسلمين وغير مسلمين.
ولقد جسدت دولة المدينة في ظل النبي محمد (ص) هذه الدولة الجنينية، ثم تطورت في ظل الخلفاء الراشدين الأربعة، مع الأخذ بالاعتبار مستوى التطور التاريخي والخبرات المحدودة حينها.
اليوم يخرج لنا منظّرو الأنظمة العربية الاستبدادية وحواريّوها صباح مساء، وهم يرددون معزوفة دولة النظام والقانون، ولأول وهلة لا يمكنك معارضة وجود الدولة وسيادتها وسلطتها، كما لا يمكنك معارضة حفظ النظام العام من الفوضى، كما لا يمكنك معارضة حكم القانون؛ ولكن كما يقال... «كلمة حق يراد بها باطل».
نعم، ففي حقيقة الأمر هناك معايير حد أدنى للدولة، فالدولة وبغض النظر عن نظامها السياسي والاقتصادي، هي مجموعة مؤسسات تراتبية من أعلى الهرم حتى أصغر مؤسسة كمدرسة أو بلدية، أو مصنع عام، بما فيها من سلطات تنفيذية وتشريعية وقضائية، ويضيف عليها البعض السلطة الرابعة، أي الإعلام، والسلطة الخامسة وهي المجتمع المدني. وتنتظم هذه السلطات وتعمل مستقلةً عن بعضها البعض، حتى لا تطغى واحدةٌ على الأخرى، ومتعاونةً حتى تحقق وحدة قرار الدولة وعملها، وتستند إلى دستور وتشريعات وأنظمة داخلية، بما يحقق الفاعلية للدولة والمشاركة للشعب والنخب، وبيروقراطية الدولة في تسيير أمورها.
من هنا ففي الدولة الحقة، قد يُطاح بالرئيس ولكن يخلفه آخر، ويتناوب على القيادة في الدول الديمقراطية الرئيس ورئيس الوزراء والوزارة، بحيث يحل حزب أو تحالف أحزاب المعارضة محل حزب أو تحالف الأحزاب الحاكم، من خلال صناديق الاقتراع، دون أن يحدث اضطرابٌ في عمل الدولة. كما يتناوب على البرلمان أو مجلس السلطة التشريعية أشخاص وأحزاب، من خلال الانتخابات التي تشكل مصدر شرعية السلطة التنفيذية والرقابة عليها ومصدر التشريع، دون أن يحدث خللٌ في عمل الدولة.
وفي الدولة الحقة، يتم التغيير الدائم في قيادات وكوادر وعناصر الأجهزة بما فيها القضائية والعسكرية والأمنية والإدارية بسلاسة، مع استمرار الدولة في عملها ووظيفتها في حماية استقلال وسيادة البلاد، وإدارة شئونها وخدمة الشعب من مواطنين ومقيمين وزائرين.
لكن السؤال: هل بقيت لدينا دولة في البلدان العربية؟ هل ما يوجد من بنية وتشريعات وسياسات ذكرنا ما يؤكد وجود دولة ثابتة نسبياً رغم تغير وتناوب القائمين عليها من رأس الدولة والحكومة والبرلمان والأجهزة؟
الحقيقة أني أشك في ذلك، فأكبر فشل للعرب بعد الظفر بالاستقلال لبلدانهم هو الفشل في إقامة الدولة الوطنية. والحقيقة أنه كانت هناك محاولات طيبة في مصر والمغرب والجزائر والعراق وسورية، ولكن جميع هذه التجارب فشلت، وتراجعت عملية البناء، وارتد ما يُعرف بالدولة إلى تعاضديات تجمعها السلطة والاستئثار بالثروة، وتحوّلت بلداننا من أوطان إلى إقطاعيات للنخب الحاكمة.
إن الدولة العربية لا تتمتع بشرعية استقلالها النسبي عن الفئة الحاكمة، بما يعني استمرارها في أداء وظائفها وواجباتها بغض لنظر عمن يحكم. ونلاحظ أن التغيير في الحكم يأتي عاصفاً، إثر انقلابات أو ثورات أو غزو خارجي، ويؤدي إلى تخلخل أو سقوط نظام الحكم وانهيار لما يُدعى «دولة»، كما حدث في ليبيا إثر الحرب الأهلية في 2012، وفي العراق إثر الغزو الأميركي في 2003، أو اليمن إثر الحرب الأهلية في 1994، أو تراجع مخيف في وجود الدولة كما يحدث في سورية وإلى حدٍ ما الآن في تونس والسودان ومصر والبحرين ولبنان.
هناك مفهوم عالمي له جذور تاريخية لكنه يكتسب اليوم قبولاً عالمياً، وهو الحق كشرط للنظام والقانون. أي أن النظام العام والقوانين يجب أن تستهدف وتكرس وتحمي الحق، أي حقوق الشعب مواطنين ومقيمين وزائرين كمجموعة، وحقوق الإنسان كفرد. هذه الحقوق تتطوّر وتستمد جذورها من مختلف الحضارات الإنسانية والديانات السماوية والوضعية، لكنها تتطور وتقنّن مع دخول الإنسان عصر الحضارة الحالية، وخصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية مع قيام الأمم المتحدة ومنظماتها وإقرار المواثيق والاتفاقيات الدولية، وإقامة المؤسسات الدولية الحاكمة مثل منظمات الأمم المتحدة المستقلة، ومحكمة العدل الدولية ومحكمة الجنايات الدولية.
هذه الحقوق لم تُقرّ دفعةً واحدة، بل تبلورت جيلاً بعد آخر، مثل الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والبيئية، وحرية التعبير وحق تقرير المصير للشعوب، والحق في المساواة بغض النظر عن الجنس أو الأصل أو العرق أو الطبقة، وحقوق الأقليات والشعوب الأصلية والفئات الضعيفة مثل النساء والأطفال والمعوقين.
هذه الحقوق يجب أن تتجسّد في كل بلد عضو في المجموعة الدولية، وكذلك في العلاقات الدولية، بحيث لم يعد الحديث عن سيادة مطلقة أو سلطة حكم مطلقة على شعب، فالعالم متداخل ويعتمد على بعضه البعض، وأي خلل جسيم في بلد ينعكس سلباً على العالم، كما أنّ أي تطور إيجابي ينعكس إيجابياً على العالم، ولنا في الأزمة الاقتصادية الأخيرة خير برهان على ما يدعى بالدولة العربية، وهل تقترب من هذه المفاهيم أو تبتعد عنها.
والحقيقة أنه باستثناء المغرب، والآمال المعقودة على مصر وتونس، فإن الدول العربية تجاوزاً، تبتعد عن المسيرة البشرية وتتراجع القهقرى، وإن كان الربيع العربي يقدّم لنا الأمل في النهوض مجدّداً، وإخراجنا من الانحطاط الذي انحدرنا إليه إلى حدّ أن الشباب العربي يموت غرقاً في مياه المتوسط، هارباً من جحيم الوطن إلى حلم العيش الكريم في أوروبا الغربة.
إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"العدد 4057 - الثلثاء 15 أكتوبر 2013م الموافق 10 ذي الحجة 1434هـ
العلة
يستورد او يستجلب العرب كل ما يلبس ويأكل ويفهم ويقال فلم لا يستجلب الحكم مع ذلك
في العالم العربي يوجد قانون القوة وليس قوة القانون وهاك مثال
من تقرير بسيوني(الفقرة 996):- وترجع وفاة السيد/ علي صقر إلى تعرضه للتعذيب في مركز توقيف الحوض الجاف، مع العلم أنه
كان موقوفاً ساعة وفاته في وزارة الداخلية.
ومن تقرير بسيوني(الفقرة 991):"ويرجع سبب وفاة السيد/ حسن مكي إلى تعذيبه في سجن الحوض الجاف، مع العلم أنه كان
موقوفاً ساعة وفاته في وزارة الداخلية.
نعم : من الطبيعي أن يسير العالم في اتجاه الحق والحقيقة في مقابل المصالح والظلم
نظره أكثر من رأئعة للواقع العربي المرير الملبد بالنفاق والآكاذيب والتظليلات عن وجود قانون ودول وحقوق أنسان وديمقراطية وحتى دولة أفلاطون الفاضلة، في الوقت الذي يعيش فيه المواطن أمّر الامرين على أيادي غرباء ومن استأثار للسلطة والثروات والتلاعب بالدولة وتغيير لهويتها من جميع الجوانب...شكرا دكتور على كل مقالاتك الرائعة التي دائما تكون غنية بالافكار التي توسع المدارك وتثري العقل وتنيره. زادك الله من علمه ونعمه.