العدد 4053 - الجمعة 11 أكتوبر 2013م الموافق 06 ذي الحجة 1434هـ

«النافذة»... تتجمد الحركة وتتبلد المشاعر ويبدأ الصراع

في مسرحية «النافذة»، ثالث عروض مهرجان الصواري التاسع للشباب، التي قدمت على مسرح الصالة الثقافية 29 سبتمبر/ أيلول 2013 أنت أمام عرض على رغم كآبته ورتابته حد الجمود والتصلب في المكان، وتبلد المشاعر يحمل صيغة نفسية عميقة ومعقدة تكاد تفرض تحدياً في المجاوزة بها إلى تأويل يفضي بك إلى معنى أبعد مما تقوله العبارات ويبوح به العرض المسرحي على مستوى الشكل والإخراج.

فإلى أي مدى استطاع المخرج ياسر القرمزي وممثلاه فتحية ناصر وعمر السعيدي، وقبلهم السعداوي حين تخيل شخوص مسرحيته أن يتجاوزوا جميعهم من الكلام إلى صناعة رؤية مسرحية وخطاب فاعل يؤدي إلى معنى وينجز ما تصوره كل منهم ويعبر إلى ما يريدونه عبر هذا الأداء الملتبس بين تجميد الحدث وإشعال الكلام، وكآبة الضوء، وقلق الموسيقى، ورتابة الخارج وضجيج الداخل، وحكاية الذات وتأويلات الآخر.

السعداوي نص ملتبس

يقدم السعداوي، مؤلف المسرحية، ثلاث شخصيات أساسية بين أب وأم وابنهما؛ وعلى رغم أنهم يعيشون في مكان واحد، ويكونون أسرة واحدة إلا أن لكل منهم لغته التي يواجه بها الحياة، وحكايته المختلفة التي يفلسفها على طريقته كما يشاء، حتى ليبدو أن كلاً منهم يعيش في جزيرة منعزلة نائية ومختلفة عن الآخر. وعلى رغم تقاربهم في المكان تستشعر مدى ابتعادهم عن بعضهم البعض، هذه هي المفارقة الأساسية التي يصنعها العرض عبر تكثيف الحركة في المكان الضيق وتثبيتها في مربع محدود على المنصة الواسعة، بالإضافة إلى الكثير من المفارقات الأخرى المبثوثة في النص عبر الشخصيات التي تخيّلها السعداوي ليثير من خلالها وعلى ألسنتها الكثير من القضايا بشكل ملتبس ومفاجئ أحياناً وصادم أيضاً، وفي صيغة نقدية قاسية، ولعل هذا ديدنه في سعيه الفني دائماً.

المراهنة على الكآبة

يبدو أن مخرج المسرحية ياسر القرمزي وبعد انقطاع عن المسرح لم يحبب العودة إلا بما يرضي غروره الإبداعي فوضع نفسه في قبضة التحدي والمنازلة الصعبة بين نص ملتبس للسعداوي، وإخراج حاول فيه صنع الكآبة المفتعلة وتثبيت المكان، وتجميد الشخوص والإصرار على تبلد المشاعر وتمويت الحدث، ما أمكنه، ليترك للنص صناعة الحكاية بنفسه، فنحن أمام حدث يصنعه الكلام. وبالإضافة إلى الاستعاضة عن الحركة المسرحية بتقنية سينمائية تعكسها وجوه الشخوص، والمراوحة في المكان، فإلى أي مدى استطاع أن ينجز ما بشر به، ويكسب الرهان، ويظفر بالمنازلة، فلا يخرج خالي الوفاض من المعنى على مستوى الإخراج.

شخصيات مأزومة

ليضمن الإمساك بالخيوط التي أرادها لسير المسرحية احتفظ القرمزي لنفسه بتقديم شخصية الأب ذلك الرجل الكئيب الذي كلما استرسل الآخرون في الحوار معه بدت تنتسج أمامنا خيوط قصته بشكل جلي، وأخذت تتضح ملامح شخصيته، وبان معها مدى كآبته وفشله على رغم القضايا الكبرى التي يرهف بها، ويعتقد أنه ناضل لأجلها، ولكنه أمام الآخرين ليس سوى رجل فاشل خسر عمله بسبب مراهناته الكبرى كما يدعي، ودناءاته المدعاة والمرصودة حتى من أقرب الناس له زوجته وابنه.

شخصية الأم قدمتها فتحية ناصر في كثير من ملامح القلق والسوداوية والشك والريبة في الآخرين، وفي الزوج خصوصاً والذي كلما طلب منها تناول الدواء واجهته بأوهامها مؤكدة أنه يريدها أن تشرب الدواء للتخلص منها، مسترسلة في سرد حكايتها الفاشلة أكثر من مرة بروتين ممل، بما يجلي مدى كآبتها وسقمها النفسي، وشكوكها في الآخرين، الذين يكيدونها ويتمنون موتها بما يعكس تبدد الثقة في الذات والآخر.

أما شخصية الابن فقدمها عمر السعيدي الذي يبدو أيضاً أنه يجسد حكاية فشل أخرى قدّمها من خلال عدم اكتراثه بمشاعر الآخرين لا أم ولا أب، إذ راح يخاطب أباه بكل صلافة وجرأة، أما أمه فعلى رغم حنانها عليه كان يخادعها ويراوغها في كل ما يقوله حتى انتحرت لفشلها في حفظه وتربيته وعدم تحقيق أمالها فيه كما تريد، ولعل هذا ما واجه به الأب ابنه في نقاش لا تنقصه الصراحة ومكاشفة فاقعة خالية من مراعاة مقام البنوة والأبوة والمساحات الفاصلة بينهما في الخطاب.

ولعل هذه المراوغات والمكاشفات الفاقعة والصادمة التي تجلت عبر الخطاب الذي حملته الحوارات، وهو ما عكس لنا مدى تعاسة هذه الأسرة على مستوى الأفراد «كجماعة بشرية» وعدم قدرتها على التعايش بتاتاً على رغم وجودها في مكان واحد، وهو ما فاقم مأساة كل فرد من أفراد هذه الأسرة، بالإضافة إلى تأزم كل شخصية على المستوى الذاتي الفردي أساساً، بما يعكس أزمة قادمة إذا استمر المجتمع في صناعة مثل هذه الشخوص في حراكه اليومي القاسي كلما سارت عجلة الحياة ودهست المزيد من الضحايا، وكأننا هنا أمام صيغة تحذيرية يبعثها السعداوي على مستوى النص وحتى على مستوى الشكل الذي جلاه لنا القرمزي كمتلقين مشدودين مأخوذين بمدى هذه الجرأة ومستقرفين من مدى هذا الثبات وتبلد المشاعر والمراوحة والجمود في المكان والخطاب الممل.

صراع بين الداخل والخارج

المفارقة الأخرى التي تتلقاك في هذه المسرحية عنوانها «النافذة» حيث أنت أمام بيت كما جسده لك القرمزي في مستطيل خلا من أي شيء سوى كرسي للاعتراف وأنت داخل هذا البيت لا تتعرف على كل حكاياته وإنما أنت أمام مدخل واحد ورؤية واحدة هو ما قدمه لك الكاتب والمخرج عبر «نافذة» محددة هي نافذة الكآبة والفشل وهنا يتضح لك مدى قدرة عنوان النافذة على تمثيل حالة اتصالك كمشاهد للمسرحية حيث تكون النافذة هي المعبر الوحيد الذي سمح لك المخرج برؤية الحكاية من خلاله والنافذة هي الفاصل بين عالم الداخل وعالم الخارج.

بين استعارة الداخل والخارج تكمن كل الحكاية فنحن هنا أمام حكاية نظن أنها تتم داخل البيت حيث لم يبارح الممثلون مكانهم، وعلى رغم ذلك إلا أن كل ما يهجسون به ليس سوى آثار الأزمات التي عاشوها في خارج البيت ونقلوها إلى داخل البيت، وهذا ما يجلي حالة المفارقة بين الداخل والخارج في صناعة الصراع.

وتتواصل استعارة الداخل والخارج في مفاقمة الصراع عبر ما تهجس به الشخصية في داخلها وبين ما تعكسه للآخرين في خارجها، فلدى كل شخصية حكاياتها ورؤيتها الخاصة وتأويلها للأمور كما تراها بينما لدى الآخرين رؤاهم وتأويلاتهم لكل فعل وكل كلمة تقولها الذات، وهنا تكمن المفارقة الأخرى بين الداخل والخارج أيضاً، وبين داخل الذات وما تهجس به وبين الخارج وهو تأويل الآخر، وما بين الذات والآخر يكمن كل الصراع ومنشأ كل حكاية.

إنها نافذة نطل بها على دواخل الشخصيات وداخل هذا البيت الصغير الكئيب، حقاً كانت النافذة هي المنفذ الوحيد الذي سمح لك المخرج به للدخول لتلك الشخصيات والعبور إلى ذلك البيت الكئيب والذي جلاه لك بأضواء خافتة، وموسيقى مبدعة كئيبة أحياناً وقلقة ومستفزة أحياناً أخرى، قدمها بإتقان الفنان حامد سيف.

الضحايا القادمون

على مستوى النص نحن أمام حوارات ملتبسة تعكس الحدث عبر الكلام وتهجس بما وراء كل شخصية، وتجلي صراع الداخل والخارج. وعلى مستوى الإخراج نحن أمام تحدٍ آخر هو تمويت الحدث وتحريك الكلام، تثبيت الخارج وإشعال الداخل. فإلى أي مدى استطاعت النافذة العبور بنا من خارج البيت إلى داخله ومن داخل البيت إلى دواخل الشخصيات. هذا هو التحدي الذي حاول القرمزي العبور بنا عبر نافذته لنرى الضحايا الذين دهستهم الحياة ولم تترك لهم مكاناً للراحة لا داخل بيوتهم ولا داخل ذواتهم في صيغة تحذيرية غير مباشرة عبر استبطان المشاهد لهذه المآلات الصادمة واستقرافه منها. فربما نكون نحن الضحايا القادمين، فلابد من أخذ الحيطة والحذر من أن تدهسنا الحياة على حين غرة ونحن لا ندري.

العدد 4053 - الجمعة 11 أكتوبر 2013م الموافق 06 ذي الحجة 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً