العدد 4053 - الجمعة 11 أكتوبر 2013م الموافق 06 ذي الحجة 1434هـ

رصْد لبيوت الروح... الإنسان هناك

في إصدار لـ «ليان الثقافية»... «المساجد الثلاثة»...

قليلة هي المؤسسات الثقافية غير الربحية في العالمين العربي والإسلامي؛ أعني المؤسسات التي تطلع بجهود ضخمة؛ سواء عبر العمل النوعي الذي تؤديه؛ ما يتطلّب بالضرورة وقف أموال ليست بسيطة، ويمكن اكتشاف ذلك من طبيعة النتاج الذي تخرج به على الناس. نتاج تتوخّى من خلاله رسالة عظيمة الأثر وعميقة القيمة؛ وخصوصاً في المشروعات التي تركّز على جانب الرصْد والأرشفة والتأريخ، وعلى مستويات ومداخل عديدة.

تأتي على قائمة تلك المؤسسات الثقافية العربية غير الربحية ذات العمل الملفت والنوعي، مؤسسة ليان الثقافية التي يرأس مجلس أمنائها سمو الأمير فيصل بن عبدالله بن محمد آل سعود، والتي من بين أهداف إشهارها «تشجيع المبدعين في مجال الفنون العربية والإسلامية في المملكة العربية السعودية والعالمين العربي والإسلامي، وتسعى إلى الرفع من قدرات ذوي التميّز في شتى الفنون من رسم ونحت وتصوير وعروض فنية ومتحفية. كما تتضمّن أهداف المؤسسة إبراز الحضارة العربية والإسلامية بمفهومها الشامل والتعريف بدورها في تطوير مختلف الفنون والخط العربي وصناعة الكتاب وأدواته».

بعد معرضها المتميّز «مساجد تشدُّ إليها الرحال» في العام 2005، قدّمت «ليان» وعبر تصميم وإصدار «الورَّاقون البحرينية»، «المساجد الثلاثة»، رصدت في الإصدار، البيت الحرام بمكة المكرَّمة، والمسجد النبوي الشريف، والمسجد الأقصى في فلسطين المحتلة.

الإصدار عبارة عن رصْد بالصور للمساجد الثلاثة ببشرها ومحيطها الذي تكاد تطلع منه روحانية المكان، تولَّاه المصور الفوتوغرافي التركي أورهان دورقت.

الإصدار احتوى تقديماً لرئيس مجلس أمناء المؤسسة الأمير فيصل بن عبدالله بن محمد آل سعود، تحدث عن بواكير نشاط المؤسسة مروراً بمحتوى الإصدار الذي نحن بصدده، حديثاً عن معرض الصور التي يحويها الإصدار وخصوصاً فيما يتعلق بالتوسعة الكبرى للمسجد الحرام، والمسجد النبوي الشريف، وعروجاً إلى المسجد الأقصى وقبّة الصخرة. أمين عام المدينة المقدسة (مكة المكرمة)، أسامة البار تناول في تقديمه للإصدار جانب العمارة في المدن الثلاث.

العمارة التي رصدتها كاميرا دورقت، مستهلاً ذلك بفترات تاريخية تعاقبت على توسعة الحرم المكي والمسجد النبوي، والتي بحكم المعاينة تشهد أكبر التوسعات والامتدادات عبر التاريخ في العصر الحديث. المصور التركي أورهان دورقت في تقديمه أشار إلى أن «غايتنا كانت تكوين أرشيف موثق يتضمن تفاصيل المستجدّات كافة لأعمال تطوير الحرمين الشريفين، والمناطق المحيطة بهما، بما في ذلك مشروعا التوسعة والتحسين والتطوير». إذاً تتبدّى؛ وضمن دور مؤسسة ليان، أهمية وعمق أثر الأرشفة في زمن وبشر يتسللون من ذاكرتهم هرباً من أمر ما؛ ليس بالضرورة خوفاً منه؛ ولكن قد يكون هرباً من عبء واستمراء كسل وأحياناً «تنْبَلَة»! وهي بالمناسبة صارت ملح هذا الوقت بامتياز!

المسجد الحرام

الكعبة الشريفة والمسجد الحرام مدخل أول في الإصدار يتتبّع التوسعات المستجدة في مراحلها الأولى بدءاً بوضع القواعد وصولاً إلى مراحل متقدمة منها.

ترافق الصور نصوص تعرّف بالبدايات، ففي العام 1927 أصدر الملك عبدالعزيز أمراً بإنشاء دار خاصة لصناعة كسوة الكعبة المشرفة «تضم أقساماً مختلفة لمراحل صنع الكسوة»، ليبلغ النص الأرشفة لأول برنامج صيانة شامل للحرم المكي الشريف في العام 1925، بأمر من الملك عبدالعزيز قضى بترميمه وتحديثه وزيادة مساحته.

صور البدايات تلك لم تحوِ الإصدار، ذلك ما ينقصه، ولو ضمن ملحق في تبويبه. الإصدار اهتمّ بالتوسعات الجديدة التي رافقها أورهان دورقت مع بداية المشروع في العام 2007.

في التأريخ لخشوع البشر. قليلة هي أعمال الرصد في هذا الاتجاه. رصد خشوع وهيبة المكان والبشر في لحظات روحانية فارقة. خشوع في حضرة الوحدانية. في حضرة الله جلّ جلاله. المكان في قدسيته ورمزيته لا ينفصل عن الإنسان. دورقت يلاحق ويقتنص ذلك المعنى في دقائقه وزواياه الحسّاسة واللحظية أحياناً.

أكثر ما يلفت في التقاطات دورقت؛ تلك الموجة البشرية في الطواف حول الكعبة؛ إعصار لا دمار فيه. تأخذ التقنية دورها في التخفيف من مآلات ومعنى المفردة: إعصار.

ذلك التموّج البشري حول البيت، بمسْحة بياض دليل ابتغاء طُهْر في أطهر بقاع الأرض. 41 اعتمد دورقت في كثير من القبض على اللحظات التي سعى إلى رصدها على (Megapixel) (الكثافة النقطية للكاميرا الرقمية)، كما اعتمد على (AF Points) (تحديد الجزء المراد من الصورة من حيث حدّة وضوحه). يمكن تلمّس ذلك أكثر في رصد الزوايا والحالات والبشر في المسجد الحرام أكثر منه في المسجدين الآخرين موضوع الكتاب: المسجد النبوي والمسجد الأقصى. واعتمد دورقت، وهو الغالب في كثير من لقطاته على «عمق الميدان» (DEPTH OF FIELD) وهي المسافة بين الجسم القريب والخلفية الأبعد».

الوقوف على كل تفصيل من تفاصيل نص الصور لكل مسجد لن ينتهي ويكفي القول: لم يهمل دورقت بشر ذلك المحيط. بشر السعي إلى نقاء الروح، وضمن أجيال متفاوتة ومتعاقبة.

المسجد النبوي الشريف

المسجد النبوي مر بمراحل من التوسعات والإصلاحات منذ عصر الخليفتين عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما، مروراً بالعصر الأموي والعباسي والأيوبي والمملوكي والعثماني. يلحظ القارئ أن القسم الخاص بالمسجد النبوي الشريف خلا من التأريخ وأرشفة التوسعة (ولو كانت توسعة غابرة)بخلاف المسجد الحرام الذي يستهل الإصدار جانباً من توسعته، وإن خلا كما أشرنا من ملحق يرصد مراحل من توسعات فترات زمنية سابقة، مشروع الإصدار كان مُقدّراً له أن يبدأ في العام 2005، ولظروف تم البدء به في العام 2007.

هل لم تتم أية توسعة طوال خمسة أو ستة أعوام في المسجد حتى صدور العمل في العام 2013؟ يتتبّع دورقت المسجد النبوي مع فارق أن البشر في المكان أكثر إمكانية في الرصد والتناول.

الحضور البشري في الأول كالموجات المتعاقبة. الإمساك بإحداها يحتاج إلى صبر وجلَد، حتى في غير المواسم التي تتعاقب فيها تلك الموجات. في المسجد النبوي الفرص مؤاتية.

البشر هنا الغالبون من حيث حضورهم في الإصدار. المكان حاضر في تفاصيل أكثر دقة من الزخرفة والنقوش إلى الأروقة والأقواس والأعمدة.

المسجد الأقصى

للمسجد الأقصى قصة الأرض والسماء في الوقت نفسه. ارتباط بالإسراء من مكان إلى آخر، عروجاً إلى حيث الزمن والمكان في تلك الدائرة خارج الرصد. سمي الأقصى لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام.

في العام 636 للميلاد دخله الخليفة عمر بن الخطاب رض الله عنه وتسلم مفاتيح المدينة. وشهد المسجد توسعات تاريخية في مراحل مختلفة في العصر الأموي في عهد عبدالملك بن مروان، والوليد بن عبدالملك.

البشر في هذا الفصل من الإصدار قليل حضورهم. الكاميرا ترصد المنمنمات والنقوش والأقواس. البشر حاضرون في حالات الصلاة أو ما قبل وقتها. ما قبل الوقت تبدو فرصة سانحة لاقتحام خصوصيات بعضهم. في تلاحمهم لأداء الصلوات يحضر المكان بكل دفئه وطهْره والوجع الذي مازال يسري في عروق الزمن العربي!

«المساجد الثلاثة»... رصْد لبيوت الروح... الإنسان كان هناك في قلب الصورة حيناً، وفي الطرف منها حيناً آخر.

«ليان» مشروع تقارب وتقريب أيضاً. أورهان دورقت ليس معروفاً وحاضراً في العالم العربي؛ ربما في دائرة ضيقة من المهتمين والمختصّين؛ لكن لا حضور رائجاً له. المؤسسة تقدمه عبر إصدارها وتكشف عن موهبة فذّة وعين شاعرة، وحدقة تسع اللامرئيَّ أيضاً.

يذكر أن «الورّاقون» مصممة وناشرة الإصدار واحدة من المؤسسات التي أخذت على عاتقها مسئولية التصدّي لتعميم ثقافة بصرية مهملة أو مركونة جانباً؛ وفي أحسن الأحوال مؤجّلة تبعاً لعملية الربح والخسارة؛ العائد والخيبات. المؤسسة تعمل بثقة المحترف الذي في تقديم تفاصيل المكان ودقائقه إلى المحيط والعالم وإن لم تحظَ بأدنى اهتمام في محيطها!

العدد 4053 - الجمعة 11 أكتوبر 2013م الموافق 06 ذي الحجة 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً