العدد 4046 - الجمعة 04 أكتوبر 2013م الموافق 29 ذي القعدة 1434هـ

أرشيف دلمون والهوية الدلمونية الضائعة

مضى الآن قرابة أربعة أشهر منذ أن بدأنا هذه السلسلة والتي أسميناها «الجذور»، والغرض الأساسي منها إعادة إنتاج أهم نتائج الدراسات الحديثة التي تناولت حضارة دلمون، وخصوصاً تلك الدراسات التي تبحث في الجذور الأولية لهوية دلمون. هذه الدراسات الحديثة ترجح نظريات معينة وتستثني فرضيات أخرى، وذلك بحسب النتائج التي تم تحصيلها عن طريق تحليل الاكتشافات الأثرية الحديثة. غالبية النظريات الحديثة تم التوافق عليها وأصبحت حقائق علمية بحسب المعطيات الحالية، وهي نظريات قابلة للنقد والتغير في حال ظهرت نتائج جديدة. وهناك تعارض جوهري بين بعض الفرضيات القديمة وعددٍ من الحقائق العلمية المرجحة الحديثة؛ فمن تلك الفرضيات القديمة ما يلغي وجود هوية حضارية لثقافة دلمون، بينما الدراسات الحديثة تؤكد وجود هوية واضحة لحضارة دلمون؛ فالصراع، إذاً، ليس بين القديم والحديث وإنما الصراع من أجل إثبات الهوية.

منذ سنوات طويلة، أحاول أن أجمع أرشيف دلمون المتناثر الذي يجب أن يُجمع ليكون أساساً لكتابة تاريخ دلمون بصورة دقيقة. لا أعلم بالتحديد عدد الدراسات المنشورة عن تاريخ دلمون، وكل ما اطلعت عليه قرابة 400 دراسة أساسية، وقرابة 30 كتاباً وتقريراً وقرابة 10 رسائل دكتوراه وماجستير، ويضاف إلى ذلك مئات الدراسات الثانوية المساندة لدراسة تاريخ دلمون. في الدراسات المبكرة توجد فرضيات تم استبعادها في الدراسات اللاحقة؛ فالمرجح في الدراسات الحديثة التي تناولت تاريخ دلمون أن هناك «دولة دلمون» التي تكونت في نهاية الألف الثالث قبل الميلاد وانتهت قرابة منتصف الألف الثاني قبل الميلاد (Hojlund 2007، pp. 123 - 127). هذه الدولة لها هويتها ولها ثقافتها الخاصة التي تميزها؛ وبالتالي فهناك شعب يسكن هذه الدولة وله هويته الخاصة، وهذا الشعب هم الدلمونيون، أي سكان دلمون الذين أنتجوا ثقافة ذات طابع خاص بهم، ويمكن الاستدلال عليها عن طريق اللقى الأثرية التي عثر عليها حتى الآن. وعلى رغم وجود عدد كبير من الدراسات الحديثة التي تؤكد وجود هوية لدلمون إلا أنه مازال هناك من يعيش بين الفرضيات القديمة التي لم يعد لها وجود، البعض مازال يعيد إنتاج تلك الفرضيات القديمة ويروج لها حتى أخذت تظهر من جديد في الصحف اليومية وعلى مواقع التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت. ومن العبارات التي ظهرت مؤخراً، «تلال القبور بناها الفينيقيون عندما استعمروا البحرين قديماً»، «العراقيون القدامى كانوا يدفنون موتاهم في البحرين لإيمانهم بأنها أرض الخلود»، وغيرها من المقالات والكتب الحديثة التي تتحدث عن الفينيقيين الذين حكموا البحرين قديماً أو تتحدث عن البحرين كونها «مقبرة» للسومريين وغيرهم من بلاد الرافدين. هذه فرضيات قديمة ما عادت تناقش من قبل المتخصصين في تاريخ دلمون.

هوية دلمونية

أم فينيقية

تعود فكرة الربط بين البحرين والفينيقيين إلى (سترابو Strabo 63 ق. م. – 23 م) مؤلف كتاب الجغرافية الذي ربط تايلوس وأرادوس بالفينيقيين. تايلوس (Tylos) هو الاسم الذي أعطاه اليونانيون لجزيرة البحرين الكبرى وهذا ثابت بالدليل القاطع حيث تم العثور على نقش عليه اسم «تايلوس» يعود تاريخه للفترة (142ق. م – 115ق. م)، (Gatier et al 2002). وينفرد الكاتب اليوناني سترابو بذكر اسم تايلوس محرفاً فقد ذكره بالراء بدلاً من اللام أي «تايروس»: «إٍذا أبحرنا إٍلى ما هو أبعد، نصل إٍلى جزيرتين أخريين، أقصد تايروس وأرادس، توجد فيهما معابد مثل معابد الفينيقيين. ويؤكّد أهالي الجزيرتين في الحد الأدنى، أن جزر الفينيقيين ومدنهم، التي تحمل الاسم ذاته هي مستوطناتهم الخاصة ذاتها ( جغرافية 4/3/16)، (بوتس 2003، ج 2 ص 852).

ليس من قبيل المصادفة أن يذكر سترابو اسم تايلوس محرفاً فالبعض يرى أنه أدخل صيغة مختلفة لاسم تايلوس وجعلها « تايروس» وذلك لربط الجزيرتين بالمدن الفينيقية في لبنان وسورية «تايروس» و «أرادوس»، والتي اختزلت بعد ذلك في الاسمين Tyre وArvad أي مدينتي صور وأرواد (Bowersock 1986). وبذلك أحيا سترابو قضية طرحها قبله هيروداتوس (484 ق. م. – 425 ق. م.)، تتضمن أن الفينيقيين يزعمون أن أصلهم من البحر الأرثري (أو البحر الأحمر وهو اسم الخليج العربي عند اليونانيين)، قبل أن يهاجروا إلى البحر المتوسط مارين عبر بلاد الشام، وظلت هذه المقاطع مدة طويلة تسترعي انتباه الرحالة والآثاريين والمؤرخين حتى تلاشت مع الزمن (بوتس 2003، ج 2 ص 852 - 872).

وهناك من طور من تلك الفرضية لاحقاً؛ حيث افترض Bent أن تلال القبور في البحرين هي من بناء الفينيقيين (Bent 1890)؛ وبالتالي ما عادت هناك هوية دلمونية قائمة بذاتها، بل هناك هوية فينيقية. وفي العام 1929 عدل Mackay من تلك الفرضية، واقترح أن المدفونين في تلال المقابر هم من الجزيرة العربية؛ حيث إنه لا توجد آثار لأماكن سكنى في البحرين معاصرة لتاريخ بناء تلك القبور (Nayeem 1992، p. 202). باختصار، كان الاعتقاد السائد أن دلمون البحرين لم تكن حضارة بل كانت مقبرة كبيرة. وهذه النظرة لم تتغير إلا بقدوم البعثة الدنماركية في بداية الخمسينات والتي تبنت فكرة أن تلك القبور من بناء شعب له هوية وثقافة محلية؛ حيث تم الكشف عن مناطق السكنى القديمة لتلك الشعوب في موقع رأس القلعة، وقد تبنى Bibby فكرة أن تلك القبور من بناء الدلمونيين (Bibby 1970، p. 146). وفي العام 1982 أعاد Lamberg-Karlovsky فرضية أن دلمون كانت مقبرة، وقد قام Lamberg-Karlovsky بدمج الأساطير مع تلك الفرضيات السابقة، ثم بلور فرضيته التي تنص على أن البحرين، وحتى شرق الجزيرة العربية، كانت مقبرة للسومريين أو بلاد الرافدين بصورة عامة، وأن دلمون البحرين اكتسبت أهميتها كونها أرضاً مباركة يدفن فيها الموتى (Lamberg-Karlovsky 1982).

ولاقت فرضية Lamberg-Karlovsky رواجاً كبيراً في بادئ الأمر، إلا أن الكشوفات الأثرية اللاحقة تثبت عكس ذلك؛ وهكذا تم تجاهل هذه الفرضية في الدراسات اللاحقة (Breuil 1999). وقد ظهرت دراسات حديثة ما بين العام 2007 والعام 2011 حول تلال المقابر تكشف عن نتائج وتحليلات جديدة أدت لصياغة نظريات حديثة حول هوية المجتمع الدلموني وتقسيماته الاجتماعية والجغرافية وهو ما سنتناوله بالتفصيل في فصول لاحقة (Hojlund 2007)، (Hojlund et. al. 2008)، (Laursen 2007، 2008، 2009، 2010، 2011).

الخلاصة أن دلمون بناها «الدلمونيون» وبدلاً من أن نعيد إنتاج الفرضيات القديمة علينا أن نواصل البحث في جذور الهوية الدلمونية، ولا سبيل إلى ذلك إلا بإنشاء أرشيف يجمع الدراسات المتخصصة حول دلمون، وحبذا أن يكون أرشيفاً رقمياً متاحاً للباحثين والمهتمين المحليين؛ وذلك لتنشيط حركة البحث في تاريخ البحرين القديم.

العدد 4046 - الجمعة 04 أكتوبر 2013م الموافق 29 ذي القعدة 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً