العدد 4046 - الجمعة 04 أكتوبر 2013م الموافق 29 ذي القعدة 1434هـ

«الريف» يقدم أمثولة للخلاص في «المطهر»

قماشة تتحول إلى كفن
قماشة تتحول إلى كفن

منذ الوهلة الأولى في مسرحية «المطهر» لمخرجها عبدالحسين مرهون تطالعك على المنصة قماشة بيضاء يتدثر بها الممثل، تتحول فجأة إلى كفن يلف جسد الممثل، ثم إلى حبل وقيد يمسك طرفيه شخصان على اليمين واليسار يشدان به الرجل.

في هذه القماشة تكمن الرؤية المسرحية التي يريد العرض تقديمها، إذ مثلت القماشة استعارة فنية تختصر الحكاية والمعاناة وتبعث في المتلقي التأويل الذي لا تنقصه الصراحة.

بهذا المشهد الرمزي، برع المخرج عبدالحسين مرهون في إثارة دهشتنا بجمالية موحية، تثير الأسئلة، ولا ينقصها البوح والتأويل، وذلك من أول وهلة في مسرحية «المطهر» المعدة عن مسرحية «الجلادين» من تأليف فرناندوا أربال. ساعد في الإخراج جاسم العالي ومن إنتاج بدر نصيف وتقديم مسرح الريف، وذلك في يومي 24 - 25 سبتمبر/ أيلول 2013 على الصالة الثقافية وسط حضور من المهتمين والمثقفين والأصدقاء وجمهور المسرح.

بهذه القماشة البيضاء أجاد المخرج مرهون لعبة السينوغرافيا التي بغموضها استطاعت أن تثير الدهشة وتستدعي الأسئلة والتأويل، فهذه القماشة البيضاء تتحول بالتأويل من الضد إلى الضد من قمة البياض إلى قمة السواد، فبعد أن كانت دثاراً يتدفأ به الممثل فإذا بها تتحول إلى كفن يلفه من أعلاه إلى أسفله. هكذا هي لعبة الأضداد التي تمثلت في الانقلاب من اللون الأبيض والحياة والدفء، إلى اللون الأسود والموت والبرد القارس. فإذا كان الممثل في البداية يلتف بها وسط المسرح، فإنه الآن يضيق بها وتكاد تخنقه حين يحولها الشرطيان إلى كفن يلفان به جسم الرجل وهكذا تتواصل اللعبة من الضد إلى الضد.

في صورة أخرى تتخذ القماشة البيضاء اللون الأسود دلالة، في وظيفة أخرى تتحول إلى حبل يشده اثنان ويكون الرجل وسطه، فإذا أسلسل لهما وأرخى سحباه ذات اليمين والشمال إلى حد الاختناق، وإذا اعتقد أنه تمكن منهما وقام بسحبهما نحوه فاقتربا منه ظلا يحرقان جسده بسياطهما، تماما كما هي لعبة السلطة فإذا تركتها وأرخيت لها لعبت بك الألاعيب، وإذا اعتقدت أنك تمكنت منها فاقتربت منك أحرقتك بنار سياطها ومراوغاتها وآفاتها.

بهذه القماشة تنكشف باقي اللعبة المسرحية ونتحقق أن هذا المشهد الرمزي عبر التأويل استطاع فعلاً أن يختصر المسرحية ويقول كل شيء ولكن ليس ذلك مستقلاً بنفسه كمشهد بل بالاتكاء على وظائف أدوار الشخصيات وتلك الحوارات وما وراءها.

الألم طريق الخلاص

اتخذ عنوان المسرحية «المطهر» صيغة خلاصية في التعبير عن وظيفة الحكاية في المسرحية، وذلك حين يكون الألم طريقاً للخلاص، تماماً كما هي السرديات والحكايات الشعبية الشهيرة. إذ تتلخص الحكاية هنا في المسرحية من خلال أربعة أدوار أساسية في «لعبة السلطة، بين ضحية وجلاد ومعارضة وموالاة». واستعارت الحكاية بشكل مختصر جداً لهذه الأدوار أسرة مكونة من أب وأم وابنين، مثلت دور الأم ريم ونوس التي تشي بالأب وترمي به في السجن فينال العذاب، فيما مثل دور الأب الضحية والبطل في آن واحد الفنان يحي عبدالرسول، أما الابنان فهما علي مرهون، وسيدهاشم الشاخوري، اللذين تضاد دورهما، في الموقف من فعل الأم، من حيث الموافقة والرفض لفعلها إذ اتخذ أحدهما دور المولاة، والآخر دور المعارضة. وهكذا دارت حواراتهما مع الأم، ففي حين انحاز سيدهاشم الشاخوري لفعل الأم وتبريراتها في الوشاية بالأب وتعذيبه وزجه في السجن، في مقابل ذلك عارض علي مرهون فعل الأم وبدد كل تبريراتها واتخذ وظيفة المعارضة لكل ما فعلته الأم ريم ونوس التي مثلت السلطة وجعلت الأب يعيش كل هذا الشقاء. وفي الوقت الذي تعرض الحكاية المسرحية هذه العائلة في هذه الصيغة من العذاب والألم فإنها تسوقها كأمثولة وأيقونة لبيان أن العذاب طريق التطهر ومعرفة مآلات كل موقف من المواقف وكيف أن السلطة تحمل وراءها كل هذه الآفات وتفسد وتقطع وتحطم وتفتت حتى أشد العرى في العلاقات الإنسانية.

ويستمر العذاب

وتتواصل الأمثولة امتداداً في الأجيال عبر الموقف من السلطة من خلال الأدوار التي يتخذها الأبناء من الآباء الذين سبقوهم قي ردة فعلهم من السلطة، وقد تجلى ذلك في أن بذرة الخلاف بين الأب والأم استمرت مع الأبناء، وتمددت في باقي الحكاية فإذا كان الممثلان مرهون والشاخوري قد مثلا امتداداً للأم والأب في مواقفهما من السلطة وقسوتها على الأب الأم معاً، فإن لهما معادلين موضوعين هما الجلادان اللذان كان يسحبان القماشة التي تحولت لكفن مرة وأخرى لحبل، وهما الجلادان اللذان مثل دورهما كل من فيصل العريض وفاضل عباس، حيث ظلا يجلدان الأب بسوطهما وما هذا الأب سوى الوطن الذي يتلوى بأثر امتدد الخلاف وتواصله في الأجيال وعدم حسمه. وهكذا سيظل الألم وتستمر الحكاية على المنوال نفسه ما لم يتم الحسم واقتسام الألم لينال كل حصته من الوجع في طريق الخلاص والسعي نحو التطهر الذي عنته المسرحية عبر عنوانها.

كسر حاجز الوهم

يتواصل فعل التأويل كلما استطاع العمل الفني إمدادنا بعلامات قادرة على الإبراق ومن بعض هذه الأفعال خروج الجلادين وكسر حاجز الوهم بين المنصة والجمهور والبحث بأضوائهما في وسط الظلام وتفحص وجوهنا كمشاهدين بحثاً عن ضحية جديدة لجلدها وتعذيبها، للدلالة على حيوية هذه الحكاية وأنها لا تجري على المنصة وإنما هي فعل حي بيننا وأن الضحية هي نحن أنا وأنت وهو وهم ونحن جميعاً، ولا يتوقف هذا البحث والتفتيش حتى يتم استخراج الفنان عبد يحيى عبدالرسول من بين الجمهور واقتياده وتعليقه على الصليب المعقوف وتعذيبه حتى الموت، وتدور الحوارات بين الأم والولدين وبلعبة الفلاش باك نكتشف أن الحكاية تتم استعادتها من جديد، وهذه علامة أخرى فنية تؤكد استمرار الحكاية وتحمل وظيفة تحذيرية لأن ننتبه حتى لا نكون الضحايا القادمين.

العدد 4046 - الجمعة 04 أكتوبر 2013م الموافق 29 ذي القعدة 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 2:23 ص

      من المخرج إلى الناقد

      ان من المعلوم لكل مشهد هو أن عليه أن يقرأ ما وراء الكلمات و ينظر لما خلف الحركات و السكنات و اعتقد أن الأستاذ حبيب فعل ذلك لذا نجده يبحر بكل حرية و اطمئنان بأن سيره هو في الإتجاه الصحيح .
      أنا أعتذر عن شرح ما ارمي اليه و إن فعلت غهذا دليل على أني غير واثق من مقدرتي التوصيل عبر الخشبة أو أني اريد توجيه المشاهد كما اريد و أن أحجر على فكره و خياله .
      استاذ حبيب آل حيدر /// شكرا لك على اهتمامك
      عبد الحسين مرهون

اقرأ ايضاً