بَدأنا ألفِيتنا قبل ثلاثة عشر عاماً بحروب وصراعات. حَلَّ علينا العام 2000 والحرب الاثيوبية الاريتيرية مستعرة، وحرب الشيشان الثانية مُدوِّية، والصراع الأهلي النيبالي أحمر قانٍ. ثم جاءنا العام 2001 لنشهد حرب أفغانستان غير الشرعية. وجاءنا العام 2002 ليُضَمَّخ وجه القارة السمراء بحرب سيراليون المُهلِكة.

ثم جاءنا العام 2003، لنشهد الاحتلال الأميركي المروِّع للعراق، ومعه بالسواء حرب الكونغو الثانية. وجاء العام 2004، ليبقى العالم ينظر لنزاع كازامانس بالسنغال بلا أمل. ثم جاءنا العام 2005 وحرب بوروندي الرهيبة تُدمِّر الحجر والبشر. ثم جاء العام 2006 لتبدأ حرب إسرائيل الظالِمة على لبنان.

ولم يكد يأتي العام 2007 حتى بدأت الكونغو تكابد صراعا أيتوريا. ثم وفي العام 2008 شهِدنا حرب إسرائيل الظالمة على غزة. ثم جاء العام 2009 لنشهد الصراع الدموي لنمور التاميل في سريلانكا. وعندما جاء العام 2010 كان الصراع لايزال يصمّ الآذان في أوغادين باثيوبيا.

وعندما جاء العام 2011 كان الصراع الهندي في ناكاسليت وناجالاند لايزال محتدماً. وفي العام 2012 كانت قوات الفارك لاتزال تقاتل في كولومبيا. واليوم، ونحن نقضي الشهور الأخيرة من العام 2013، مازلنا نسمع أنين الصراعات في الصومال ونيجيريا وسورية ومالي وغيرها من الدول.

أوضاع العالم تبدو مأساوية حقاً في بحر عقد فقط! ولو ادعينا التفاؤل الأبله وقدَّرنا أن صراعاً واحداً من صراعات تلك السنين قد أفقَدَنا ستين ألفاً فهذا يعني أن العالم فَقَدَ 780000 إنسان في عشرة أعوام. لكن الحال بالتأكيد أسوأ، كون تلك الصراعات هي متراكمة، ومتوالية في السنين، وليست معركة واحدة في مكان واحد وزمان واحد، وبالتالي الحصيلة بالتأكيد رهيبة.

في لحظة ما، قمتُ بمقاربة تاريخية مع الفترة ذاتها التي قضاها العالم خلال بداية القرن الماضي، أي في الفترة من 1900 حتى العام 1913م. وقد وَجَدتُ في تلك السنين قدراً من المأساوية، بمقارنتها مع العقد والثلاثة أعوام التي قضيناها، لكن الفروق بَدَت جوهرية بين العقديْن سنأتي عليها لاحقاً.

مع بداية العام 1900، كان العالم يضج بسماع أخبار حرب البوير بين بريطانيا وسكان إفريقيا الجنوبية من أصل هولندي. وفي العام 1901 كانت أصداء حرب الكواسر في الصين لاتزال تتصدر المشهد. وفي العام 1902 كانت أخبار صراع مَنْ هم في الترانسفال ودولة أورانج الحرة مازالت حاضرة.

وفي العام 1903، استيقظ العالم على قيام الولايات المتحدة الأميركية باحتلال كوبا، ثم استئجار المنطقة المحيطة بخليج غوانتنامو من الرئيس الكوبي توماس استرادا بالما. وخلال عامي 1904 و1905 كان العالم (ومعه القوى العظمى) يتابع أخبار الحرب الروسية اليابانية الدموية.

وفي العام 1906 قامت القوات العثمانية باحتلال مثلث أم الرشراش ورأس النقب وطابا. وفي العام 1908 قامت الإمبراطورية النمساوية المجرية بضم البوسنة والهرسك إليها. وفي العام 1909 بدأت حرب الريف في المغرب بين محمد أمزيان والمستعمرين الإسبان.

وفي العام 1911 بدأت الحرب الإيطالية العثمانية لاحتلال طرابلس وبرقة ثم باستعمار إيطاليا ليبيا. وفي العام 1912 بدأت حرب البلقان الأولى عندما أعلنت جمهورية الجبل الأسود الحرب ضد تركيا، واستمرت هذه الحرب حتى العام 2013. وربما غابت عنا صراعات وقعت في الفترة ذاتها.

هنا، يجب أن نحدد مسار هذه الأحداث مجتمعة (ما بين بداية عَقدَي القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين)، لنجزم من خلالها، أن ظروف تشكُّل تلك الصراعات (في العقديْن) هو مختلف تماماً، وأن إرهاصاتها أيضاً مختلفة، فضلاً عن اختلاف المشهد الصناعي الحربي، الذي كان له كبير الأثر في طريقة التدمير، بالإضافة إلى طبيعة توزع السكان، واكتظاظ المناطق بهم.

لقد بات واضحاً، أن الصراعات التي شاهدناها خلال بداية الألفية ولغاية العام 2013 هي صراعات متجذرة. بمعنى أنها صراعات لنتائج، أو صراعات لخط بياني عسكري متذبذب، لكنه مُحفِّز للأطراف كي تتقاتل، في ظل انفلات في تعريف الهوية وفي طريقة ضبط الإيقاع الإثني.

لنا أن نتخيَّل، أن العقد الذي سَبَقَ الألفية التي نحن بصددها، قد شَهِدَ أربعة وثلاثين صراعاً، بمنازل دموية متباينة، وفي مناطق مختلفة من العالم، بعضها تمت تسويته، والبعض الآخر لم ينته بعد. لكن الأكثر خطراً (وهو الأهم) أن بعضاً من تلك الصراعات قد عمَّقت ذاتها، بحيث أنتَجَت كمّاً غير عادي من الصراعات المتوالدة والمكتومة، التي تنتظر مَنْ يُشعل أوارها.

لنأخذ مثالاً أفغانستان. فالحرب قد بدأت في ذلك البلد في العام 2001 لكنها ولغاية اللحظة مستمرة، بل إنها بدأت تتمدَّد على الخريطة الإثنية والقبلية فيه، ما بين بشتون وطاجيك وهزارة وغيرهم، فضلاً عن الخريطة الحزبية المتشظية والمعقدة فيها، وتورط جهات متعددة في الصراع.

العراق هو كذلك. بل إن خطورة الوضع في العراق قد تبدو أكبر، كونها مرتبطة بهواجس التقسيم المناطقي/ الطائفي، ما بين جنوب ووسط شيعي، وغرب سُني، وشمال كُردي. وهو أمر إن حدث لا قدَّر الله، فإنه سيُعقد من أوضاع منطقة الشام والهلال الخصيب وتركيا أجمع، فضلاً عن تأثيرها على منطقة الخليج العربي، ليفتح الباب أمام الصراعات بجانبها وحولها.

الحال كذلك في سورية، التي باتت تشكِّل تحالفات العالم الجديدة ومصالحه. فتسوية الأزمة فيها لن يكون بأقل من إنتاج صورة جديدة للمنطقة، تتمالأ عليها أو تحيط بها قوى كبرى، ساهمت هي بالأساس في إدارة الصراع السوري أولاً ثم معالجته بعد أن احترق البلد، وتمزَّق اجتماعه.

لكن السؤال الجوهري هنا هو: إذا كان العقد الأول من القرن الماضي قد لحقه عقد دموي، شهد انطلاقة الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918)، فكانت خسائرها ثمانية ملايين ونصف المليون قتيل، فماذا يُمكننا أن نتوقع لعالمنا، الذي بدأ قرنه بصراعات شبيهة، وهي في عمومها أكثر تعقيداً، وأكثر انشطاراً؟!