التجمهرُ كلمةٌ منبثقةٌ من مصطلح «الجمهور» أي جمهور الشعب، وتعني بالمُجمل تجمهر (أو تجمع أو تظاهر) أغلبِ أو بعضٍ من الجمهور لسبب من الأسباب أو لمناسبة معينة.
والتجمهر بمفهومه العام يدخل فيه التجمهر الرياضي، والتجمهر الديني كصلاة الجمعة أو الجماعة أو مواكب العزاء الحسيني، وكذلك التجمهر الاجتماعي كحفلات الأعراس أو الزفاف. وأخيراً التجمهر السياسي لأمرٍ سياسي معين أو لحدثٍ سياسي واقع.
ولكي لا نتوه في أروقة «التجمهر» بأنواعه السابقة سنتناول فقط «التجمهر السياسي».
فالتجمهر السياسي قد يكون صامتاً وساكناً في بقعة واحدة ويسمى «اعتصاماً»، وقد يكون متحركاً وناطقاً ويسمى «تظاهرةً» أو «مسيرةً»، وفي الحالتين قد يكون مؤيداً لسياسة الحكومة أو معارضاً لها، فيأتي إما معبراً عن رأي وإما حاملاً لمطالب شعبية، وهو حق للمواطنين وحدهم فقط، وفي غير ذلك لا يمكن اعتباره تجمهراً سياسياً.
ولكن أياً تكن أنواعه وحالاته فهو بوجه عام يُعد منبراً للجمهور يعبرون من خلاله عن ارائهم ومطالبهم انطلاقاً من حرية الرأي وحق التعبير، ما لم يكن هذا التجمهر دون هدف أو أن يكون حراكه غير سلمي، عندئذ يصبح هذا التجمهر شغباً.
وحيث نتحدث في هذا المقال عن التجمهر السياسي بين نصوص الدستور وأحكام القانون يحسن بنا أن نشير بداية إلى أن دستور البحرين ليس من الدساتير المرنة التي يمكن تعديلها بقانون برلماني عادي أو عن طريق المؤسسة التشريعية، كالدستور البريطاني مثلاً، إنما هو من الدساتير الجامدة التي لا يمكن تعديلها إلاَّ بالمشاركة الشعبية، إما عن طريق مجلس تأسيسي أو بالاستفتاء «التشريعي» الشعبي المباشر طبقاً لقانون مباشرة الحقوق السياسية. ولهذا فإن هذا الدستور يسمو على القوانين وليس العكس باعتباره الأعلى مرتبه منها. وبالتالي يجب أن تكون القوانين متوافقة مع نصوصه ومبادئه وروحه، وأي قانون يخالفه يصبح قانوناً غير دستوري، وهذا ما يُطلق عليه «بعدم دستورية القوانين».
وبالعودة إلى الحديث عن التجمهر السياسي بين نصوص الدستور وأحكام القانون في المملكة نستفتح الكلام عنه بالوقوف على ما جاء في نص المادة رقم (23) من دستور عام 2002 فنقرأ منها «ان حرية الرأي مكفولة، ولكل إنسانٍ حق التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة أو غيرهما...». ثم يأتي ميثاق العمل الوطني ليؤكد النص السابق في الفقرة الرابعة من الفصل الأول «ان لكل مواطن حق التعبير عن رأيه بالقول أو بالكتابة أو بأي طريقة أخرى من طرق التعبير عن الرأي...».
فإذا كان التجمهر السياسي هدفه الأساسي، على نحو ما أشرنا إليه سلفاً، هو للتعبير عن الرأي فنستنتج من النصين السابقين «الساميين» أن التجمهر حق كفله الدستور للمواطنين، وأن أي قانون يُحرِّم أو يُعطِّل هذا الحق يُعد قانوناً غير دستوري.
علماً أن قانون رقم (18) لسنة 1973 بشأن الاجتماعات العامة والمواكب والتجمعات الصادر قبل دستور 2002 قد اعتبر الاجتماعات العامة ومنها المظاهرات السياسية هي من حيث المبدأ مباحة.
في حين تستوقفنا نص المادة رقم (178) من قانون العقوبات التي تنص على الآتي «كل من اشترك في تجمهر في مكان عام مؤلف من خمسة أشخاص على الأقل الغرض منه ارتكاب الجرائم، أو الأعمال المجهزة أو المسهلة لها، أو الإخلال بالأمن العام ولو كان لتحقيق غرض مشروع، يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنتين وبغرامة لا تجاوز مئتي دينار أو بإحدى هاتين العقوبتين».
فهذا النص واضح الدلالة يؤكد على حق التجمهر، فاعتبره مباحاً من حيث المبدأ، بشرط ألاَّ يكون الغرض منه ارتكاب جرائم أو الإخلال بالأمن العام، أي بمعنى ألاِّ يكون مرتبطاً أو مصاحباً لعنف.
وعندما نقول «بشرط ألاَّ يكون مصاحباً لعنف» فهذه الصحبة من المفترض ألا تظهر إلاّ أثناء قيام التجمهر، أي متزامنة معه، لا قبله ولا بعده. وبالتالي لا يصح القول «ان التجمهر ممنوع خوفاً من أن يصاحبه عنف»، لأن في ذلك استباقا للحدث قبل وقوعه، فقد يقع وقد لا يقع. فيكون بذلك سلباً لحق رتبه الدستور للناس من دون مبرر ظاهر.
ولكن خشية من ألا يصاحب التجمهر عنف يستوجب أن تكون هناك تدابير مسبقة تحميه، منها (أولاً) أن يكون هناك من يرعى التجمهر تحت مسئوليته، و(ثانيا) أن يتم تبليغ الأمن العام عنه مسبقاً ليتخذ من جانبه التدابير اللازمة سواء من حيث التنظيم أو لمنع ما قد يحدث من عنف خلال التجمهر طبقاً لأحكام قانون رقم (18) لسنة 1973 سابق الذكر.
وحيث ان التجمهر حق فلا يمكن اعتباره رخصةً تُعطى بضمان مالي أو بعوض، أو منحةً يتم التفضل بها.
وعليه نخلص إلى القول ان أي تجمهر سياسي سلمي مباح للمواطنين دستورياً لا يجوز منعه أو صده ولو بقانون إلاّ إذا تخلله عنف، وبشرط أن يكون هناك من يرعاه تحت مسئوليته، وأن يُبَّلغ عنه وعن أهدافه مسبقاً الجهات المختصة.
ونافلة القول الإشارة إلى أن التجمهر السياسي وإنْ يكن حقاً للجميع (وليس رخصة أو منحة) إلاَّ انه يجب على أصحاب هذا الحق عدم التعسف في استعماله بإطلاق شعارات أو رفع لافتات تُخرجه عن أهدافه أو تمس الدولة والنظام العام أو تسيء إلى اية شخصيةٍ أو رمزٍ كان عالي المقام أو أدنى من ذلك ، لأن التجمهر السياسي ما هو إلاَّ وسيلة للوصول إلى هدف نبيل ، وحيث أن الهدفَ نبيل يجب أن تكون الوسيلةُ أكثر نبلاً.
إقرأ أيضا لـ "علي محسن الورقاء"العدد 4033 - السبت 21 سبتمبر 2013م الموافق 16 ذي القعدة 1434هـ