العدد 2465 - السبت 06 يونيو 2009م الموافق 12 جمادى الآخرة 1430هـ

ترحّموا على الختيار

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

في التفاوض يُصنع السّاسة كما في الحرب وأزيد. فمجال الداء والدواء فيه أكبر. في التفاوض يكون البلد ومُقدّراته ناجزا شاخصا أمام الجميع ينتظر شجاعة المُفاوضين ودهاءهم وعنادهم، وكيف يتعرّشون بالجزء تلو الجزء، ويَنْسَغُون ظفرا بعد آخر في لحمة العدو.

لكن (والـ «لكن» في ذلك لازمة اللّوازم) يبقى التفاوض الأقدر على صُنْعِ أنصاف ساسة أو أقلّ كذلك. فالسّاسة بعضهم يجيد تعميرة السلاح. يُهزَم ولا يستسلم. وفي الأولى يعني أنه راجع، وفي الثانية تعني أنه راكع.

لكنه يُصبح أجهل خلق الله حين يغمد سيفا ويضع يدا على الطاولة. فالحرب تُحقّق أرضا في السّياسة، لكن التفاوض يعمّدها. ويُثقّف ثُلَمَها. وقد يفتح الطريق أمام جبهة حرب جديدة ذات نتائج أفضل.

في الحالة الفلسطينية يُخشَى من كلّ ذلك، ومن أجل ذلك. كان ياسر عبد ربّه يقول: «مشكلة عرفات في المفاوضات أنه لم يكن مفاوضا بارعا» لكن الأيام بيّنت غير ذلك حين يُنظر إلى السَنَدَ السياسي للمفاوضيين الفلسطينيين اليوم.

على أقلّ تقدير كان أبوعمّار قادرا على أن يُفهِمُ الصهاينة بأنكم «تنسحبون، وأنا أسمح بأن تكون لكم دورية مشتركة معي ومع القوات الدولية على غور الأردن». كان أبوعمّار قادرا أيضا على تغبيش البندقية دون أن يأكلها الظلام، أو يفضحها النّور.

غاية الأمر ومنتهاه هو الوقوف على ما يجري اليوم من حديث حول التفاوض بين الفلسطينيين والاحتلال. فالصهيوني الذي لا يملك حقا باعتباره احتلالا حسب القانون الدولي بات يطلب أكثر من المعقول حين يقترب من قضم الهوية التاريخية للشعب الفلسطيني.

الهويات الجزئية للصراع قد تتعدد. بعضها عسكري وآخر ثقافي، وثالث اقتصادي. ليس المهم أن تُهوّل الأمور بذلك أو تُبسّط حين يتمّ حصرها في ما قرّرته خريطة الطريق، بل إن مجرّد الحديث عن نهايات الهوية يُشكلّ خطأ استراتيجيا.

مؤخرا حدثت مأساة قلقيلية. ضحاياها اثنان من قيادات القسّام وثلاثة من الأمن الفلسطيني. وبحسابات المنطق فإن الحادثة رمت حجرا في مياه الإجماع الفتحاوي قبل أن تنتقل إلى غيرها من الإجماعات.

وقبل ذلك اعتقلت قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية في نابلس رجب عوني توفيق الشريف، وهو المطلوب صهيونيا منذ التسعينيات. وهي حوادث مُؤسفة تجعلنا نترحّم على أيام سيئة لكنها ليست أسوأ من أحوالنا اليوم.

عندما كان أبوعمّار يُمسك بالسلطة كانت الأمور تجري بخليط من الثورة والثروة والحرب والسلم والصدق والكذب. وكانت تلك الوصفة السياسية الأقدر على مواجهة ظروف الاحتلال وداعميه من الأميركيين والأوربيين.

كانت تلك الحالة هي التي دفعت برئيس الوزراء الصهيوني الأسبق إسحاق رابين يقول لمساعديه على الطائرة بعد لقائه الأول بأبي عمّار: «اسحقوا عرفات، هو يعتقد أنه سيتسلّم كل شيء. ليس فاهما أو يريد أن يتلاعب معي». (راجع مُذكّرات ياسر عبد ربه المنشورة في صحيفة الحياة اللندنية بتاريخ 22 نوفمبر/ تشرين الثاني 2008).

كان أبوعمّار وهو يسير في التفاوض جاهزا لأن يقول لكتائب شهداء الأقصى ولكتائب عزّ الدين القسّام أن يُشعلوا حربا بعد زيارة شارون للأقصى. وكان قادرا أن يُحوّل سجونه لمعارضي أوسلو من الشعبية وحماس والجهاد إلى مباني دوّاره تستقبل المعتقلين في النهار وتودّعهم في المساء.

أما اليوم فإن الرئيس أبومازن بات مُستغرقا في السلام دون ضوابط ولا حتى كوابح. وهو يسير في إجراءات تحسين ظروف آليات التفاوض عبر التضحية بالكل لصالح الجزء المنتوف وغير المُكتمل حتى.

هذا الكُل بات متمثلا في الوحدة الموضوعية للقوى السياسية الفلسطينية. وبات صائرا في الحفاظ على الهوية الثقافية والتاريخية للشعب الفلسطيني، والتي تمثّلت أخيرا بطلب تعديل المناهج الدراسية الفلسطينية وتنقيتها من نصوص تُشجّع على كراهية الكيان الصهيوني.

أخوف ما يُخاف منه هو أن يتحوّل المفاوض الفلسطيني إلى مُفاوض خَشَبي. يتفاخر بما يجب أن يكون أصلا، ويتكلّم بما هو مُبتذل. ويصمت حين لا يتطلّب الموقف صمتا. يحسب الوعود الصهيونية له مُنجزا حقيقيا، ويرى في قضم الأرض وتفتيت الموقف الفلسطيني أضحية غير مأسوف عليها من أجل السلام.

قد يُصار حالهم إلى تصوير عدم زيارة عباس لتل أبيب موقفا وطنيا. وحين يُكسر ذلك التابو ويزورها ينتقلون صوب مانشيت أصفر جديد ليقولوا: إن الرئيس زار الكيان الصهيوني فعلا، لكنه لايزال يرى أن القدس يجب أن تكون عاصمة للدولة الفلسطينية المستقلّة.

وعندما يقوم عباس بالإعلان أنه غير مَعْنِي لأن تكون القدس عاصمة للدولة الفلسطينية ينتقل هؤلاء للقول: إن الرئيس أعلن أن القدس ليس بالضرورة أن تكون عاصمة للدولة الفلسطينية المستقلة فعلا، لكنه لايزال يمتنع عن لقاء الحاخام المتطرف أوفاديا يوسف! وهكذا دوليك.

أما الخوف الأكبر هو أن لا تُواجه السلطة الفلسطينية رغبة الأميركيين بشأنهم حين سُئِلوا: هل تريدون أن تكون السلطة الفلسطينية لحْدا جديدا (كناية عن جيش أنطوان لحد في جنوب لبنان)؟ فأجاب الأميركيون: نحن نريدها لحدا زائدا We want it Lahd plus.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 2465 - السبت 06 يونيو 2009م الموافق 12 جمادى الآخرة 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً