لقد أبلى الرئيس الأميركي «مبارك» حسين أوباما بلاء حسنا فيما يتعلق بالإفصاح عن نواياه تجاه ما يجب أن تكون عليه العلاقات بين أميركا والعالم الإسلامي. فالخطاب التاريخي والتأسيسي الذي ألقاه الخميس من جامعة القاهرة وما سبقه من تصريحات سواء كانت تتعلق بعلاقة الولايات المتحدة مع «إسرائيل» أو العرب والمسلمين كلها تضع النقاط فوق الحروف لما يريد أن يفعله أوباما في المرحلة المقبلة وخلال فترة حكمه التي ستمتد أربع سنوات وربما أكثر إذا جُدد له شريطة أن يكون هناك تجاوب من قبل المؤسسات الأميركية المختلفة ومن جانب جميع أطراف الصراع في المنطقة.
هذا التحول في اللهجة من أعلى مستوى لهرم الإدارة الأميركية لم يأتِ من فراغ إذ من حسن حظ المسلمين أن اختار الناخب الأميركي رئيسا مثقفا ومطلعا في جميع المجالات ولا أدلّ على ذلك من استشهاد أوباما بالقرآن الكريم والأحاديث النبوية والتاريخ الإسلامي في خطابه بل ومقارنة ذلك بما ورد في التلمود اليهودي والكتاب المقدس، وذلك على عكس الرؤساء الأميركيين السابقين المنحدرين من أصل أنجلو - سكسوني الذين يجهلون الإسلام.
فيما يتعلق بالصراع العربي - الإسرائيلي الكرة الآن في ملعب الدولة العبرية؛ فعلى الحكومة اليمينية المتطرفة التي يقودها بنيامين نتنياهو أن تختار إما العلاقات الجيدة مع واشنطن أو الاستيطان ورفض حل الدولتين. فإدارة أوباما لديها من الوسائل الدبلوماسية وغيرها ما تستطيع أن تضغط به إن شاءت على «إسرائيل» وذلك بغض الطرف عن الدعم العسكري والأمني الذي تعهد الرئيس الأميركي في خطابه بأنه لن ينقطع لأنه يتعلق بوجود هذه الدولة. فالولايات المتحدة تستطيع أن تسحب الدعم السياسي والدبلوماسي عن «إسرائيل» في الأمم المتحدة وهذا لعمري يكفي لكي يتراجع الصهاينة عن عنادهم في رفض كل الالتزامات التي تعهدت بها حكوماتهم السابقة. فإذا سحبت أميركا حق النقض الفيتو في مجلس الأمن ستكون دولة الاحتلال عرضة لملاحقات قانونية في الفترة المقبلة بشأن جرائم الحرب في المنطقة وخصوصا أن هناك إصرارا عربيا على ملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين في محكمة الجنايات الدولية.
لقد حدث تحوُّل كبير بين «إسرائيل» وأميركا في الأسابيع القليلة الماضية. فقبيل إلقاء الخطاب كانت تل أبيب تجهل مضمون ما يودُّ أن يقوله أوباما وهذا على خلاف ما اعتادت عليه الدولة الربيبة التي كانت تحصل على مسودة خطابات الرؤساء الأميركيين السابقين قبل أن تلقى حتى لا تفاجأ بشيء أو على الأقل تعد نفسها لأي عواقب بل وفي أحيان كثيرة تتم استشارة الصهاينة فيما يودُّ الرئيس الأميركي أن يقرره في شأن الشرق الأوسط.
ولكن يجب ألا نفرط في التفاؤل وعلى العرب والمسلمين ألا ينتظروا لكي يأتيهم التغيير فعليهم خدمة قضاياهم بأنفسهم من خلال الثبات على مواقف صلبة وتفعيل ما يملكونه من أوراق للضغط سواء على «إسرائيل» أو أميركا نفسها، فلا يكفي التفاؤل أو التشاؤم مثلما لا تكفي نوايا أوباما الطيبة. فهذا الرجل خلفه جيش من المعارضين لسياسته، إذ بمجرد انتهاء خطابه أعلن مسئولون في الحزب الجمهوري أن أوباما جسّد الضعف لأميركا رغم أن غالبية وسائل الإعلام الأميركية أشادت به.
أما للذين انتقدوا إغفال الرئيس الأميركي الضغط على حكومات المنطقة بشأن الديمقراطية والإصلاح... أعتقد أن الرجل كان حكيما في قوله إن الولايات المتحدة لا تفترض أنها تعرف ما يصلح الشعوب على عكس ما كان يريده الرئيس الأميركي السابق جورج بوش من فرض للديمقراطية بالقوة لتخذله في النهاية التجربة العراقية. فالديمقراطية والإصلاح والحكم الرشيد ودولة القانون وحرية التعبير وحرية العقيدة الدينية ليست فقط قيما غربية يجب أن يمليها الغرب على دول المنطقة ولكنها بحسب أوباما تقاليد عالمية بوسع الجميع تبنيها وبالتالي دمجها في هويته الوطنية. واللبيب بالإشارة يفهم. فالشعوب هي التي يجب أن تقرر بشأن هذه القيم.
الملف الآخر الذي اعتقد أن «بن حسين» أحرز فيه تقدُّما نظريّا إلى حدٍّ ما هو الموضوع الإيراني. فللمرة الأولى منذ ثلاثين عاما ستوجه الدعوة الأميركية لدبلوماسيين إيرانيين لحضور احتفالات العيد الوطني للولايات المتحدة. ولذلك يجب ألا نتفاجأ إذا ما أعلن أن الرئيس الأميركي سيلقي خطابا من داخل جامعة طهران في المستقبل القريب. فهناك مهلة للمفاوضات حتى نهاية العام ليقرر الإيرانيون شكل العلاقة مع أميركا، ولكنني أستبعد أن يتراجع أوباما عن نهج الحوار مع طهران حتى وإن اختار الإيرانيون مرة ثانية الرئيس المتشدد أحمدي نجاد في الانتخابات الرئاسية التي ستنظم الأسبوع المقبل.
من هذا المنطلق يجب التجاوب مع «النبرة الأوبامية» المتفائلة لإحداث التغيير، ليس بالانتظار فحسب ولكن من خلال المشاركة الفاعلة لجميع الأطراف في التغيير المنشود. وعلى المؤسسات الأميركية ذات الصلة أن تضع برنامجا عمليا لهذا الخطاب النظري حتى لا ينقلب السحر على الساحر في حال الفشل في ذلك.
إقرأ أيضا لـ "عزوز مقدم"العدد 2465 - السبت 06 يونيو 2009م الموافق 12 جمادى الآخرة 1430هـ