أنا لا أصدّق أنه قد مرت سنتان على رحيلك عنا، لكنك في رحيلك كما وجودك، حاضر دائماً بيننا.
عايشتك طوال سنوات عمري الواعي، أي منذ التحقت بالكلية الدولية (الثانوية العليا) في بيروت سنه 1962 حتى رحيلك عنا في سبتمبر 2011، في يوم حزين، والبلاد في ظل الانقسام الطائفي الكريه، ووسط أجواء القمع والخوف، ولكن كما وحّدت أبناء الوطن في حضورك، فقد وحّدتهم في رحيلك.
وصلني النبأ الصادم وأنا مع أخي علي في سترة لحضور تجمع جماهيري، بعد رفع حالة السلامة الوطنية. انطلقنا بسرعة إلي بيت (أبو أمل) في قلالي، البيت الذي طالما احتضن الرفاق والأصدقاء والأحباب في البحرين ومن خارج البحرين. وبسرعة البرق تقاطر الأصدقاء والأحباب غير مصدّقين ليلتفوا حول الجسد المسجّى، ويعزون أنفسهم قبل أن يعزّوا أم أمل، المرأة الصابرة التي رافقتك في حياة النضال بحلوها ومرها.
سرعان ما أتت سيارة الإسعاف لتنقلك إلي مشرحة السلمانية، حيث عاينك الطبيب الشرعي، وكنا هناك أيضاً، ثم جرت الترتيبات للدفن في اليوم التالي ليتسنى للأخوان في قطر والابنة أمل في الأمارات للمشاركة في الدفن والتعزية.
بعد نقاش داخل العائلة تقرّر كما أوصى رفيق دربه عبدالله مطيويع، أن يدفن جانب الشهيد محمد بونفور في مقبرة المحرّق. وعلى الرغم من ضغوط وزارة الداخلية لدفنه بسرعة، إلا أن أبناء البحرين من مختلف المناطق تدفّقوا إلى مقبرة المحرق ليشاركوا في واجب دفن ابن البحرين البار. وعلى امتداد ثلاثة أيام تحوّلت قاعة التأبين في المحرق إلى نقطة التقاء لأبناء الوطن الذين تقطعت بهم الوثائق في الأشهر الأخيرة، وكانت مناسبة أيضاً لتعبير أبناء البحرين والأصدقاء في الجوار كافة عن حبهم وتقديرهم للراحل العظيم.
رافقت أبا أمل منذ أن التحقت بالكلية الدولية في بيروت، ثم في الجامعة الأمريكية، ثم في ساحة النضال في الوطن وعمان والمنفى، ثم مرة أخرى في الوطن بعد عودتنا جميعاً على نفس الطائرة من دمشق في 28 فبراير 2001. لست هنا في وارد استعراض مناقبه وإنجازاته، فهناك أوراق أخرى (في هذه الحلقة النقاشية) تتحدّث عن ذلك، وقد سبق لي أن كتبت عن ذلك، وإن لم أوفّه حقه حتى الآن.
هذا الإنسان عاش حياته من أجل الآخرين، وبادله الآخرون الحب والتقدير. بوصلته الإنسان المظلوم والشعوب المظلومة، بدءًا من الوطن الذي ترعرع فيه (البحرين) مروراً بالخليج والوطن العربي، وانتهاءً بالعالم الفسيح دون تمييز. ورغم أن البحرين ظلت هاجسه حتى وفاته، إلا أنه في مسيرته النضالية، لم يتردد في تبني قضية الإنسان والشعوب التي تناضل من أجل قضاياها. ففي بيروت حيث درس الهندسة الكهربائية بالجامعة الأمريكية ومن خلال انتمائه لحركه القوميين العرب، تبنى القضية القومية، وفي مقدمتها قضية الشعب الفلسطيني والشعوب العربية الأخرى كلبنان واليمن والجزائر وباقي الشعوب العربية في مختلف بلدانها.
وعندما استلم مسئولية قيادية في الحركه الثورية في عمان والخليج العربي، ثم بعدها في الجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربي، ركّز جهده على قضايا الشعب الممزّق في الجزيرة العربية وخليجها. ثم عاش حياة مليئة بالتخفي في ساحل عمان، (الإمارات) وظفار بعمان، القاعدة الخلفية (اليمن الديمقراطي). وفي رحلة النضال هذه اعتقل في ابوظبي وتعرّض للأخطار في ظفار.
في هذه المسيرة الخطرة، رافقته أم أمل، وأفراد العائلة الذين ولدوا في المنافي باستثناء أمل، الابنة البكر التي وُلدت في البحرين.
مع الاستقرار النسبي في المنفى الدمشقي والذي استطال لأكثر من عقدين، كان الهمّ الفلسطيني هاجسه بحكم الوجود الفلسطيني، ولكنه لم يغفل قضية الشعب السوري، ولذلك اعتقل وسُجن لأكثر من ستة أشهر في النصف الثاني من 1990 في غمار أزمة غزو صدام للكويت. وبحكم كون دمشق تحتضن العديد من حركات التحرير العربية، فقد اختاروه ليتحدث باسمهم، وهكذا أضحت قضايا الشعوب العربية الأخرى: مصر، المغرب، العراق، اليمن، تونس، الأردن وغيرها، محط اهتمامه.
وليس هذا فحسب بل إنه بحكم وجود معارضين أتراك وأرمن في دمشق، فقد شجع علاقاته بهم، واهتم بقضاياهم. ولا أنسى تواصله مع من كانوا في السجن الدمشقي.
ثم جاء حراك التسعينيات لينعش الآمال بنهوض جماهيري، وهنا انخرط أبو أمل في هذا الحراك، الذي قمع في النهاية. لكن أحد انعكاساته الإيجابية هو تقارب المعارضة في الخارج بتياراتها الإسلامي والدمقراطي للتوحّد في الدفاع عن قضية الشعب، وتتجلى في لجنة التنسيق بين الشعبية والتحرير، والتنسيق فيما بين مختلف القوى المعارضة في الداخل والخارج. فبالرغم من وجود النعيمي في الخارج إلا أنه في تماس ما يجري في الداخل. جاءت الإنفراجة الجديدة في 2001، ليعود أبو أمل مع آخرين من المنافي إلى أرض الوطن.
في ظاهرة ذات مغزى، عاد على ذات الطائرة لطيران الخليج من دمشق إلي البحرين مع عائدين من مختلف الاتجاهات، وكان الاستقبال الجماهيري الرائع في مطار البحرين حيث زحفت الجموع لتستقبل أبناءها المنفيين، ورفع أبو أمل على الأكتاف وهو يلوّح بعلم البحرين، وبدأت مسيرة إعادة بناء الذات في ظل ظروف العمل العلني وعلى أرض الوطن.
وكان مشروع أبي أمل وآخرين وحدة اليسار في تنظيم واحد (التجمع الوطني الديمقراطي)، ولكن الرياح لم تجر كما تشتهي السفن، ورغم ذلك فلم يمنعه وآخرين من المضي بالمشروع لتكون «وعد» جامعاً لليساريين على أرض الوطن. وطوال سبع سنوات، قاد أبو آمل (وعد) في مختلف المواقع، وعمل على وحدة المعارضة وتصليب صفوفها وخوض معاركها، لذلك يفتقده زملاؤه المناضلون وأبناء شعبه كما نفتقده في وعد.
في حدث ذي دلالة، خاض النعيمي الانتخابات النيابية في المحرق، حيث للسلطة تدخلات واسعة، وهو يعرف أن الدولة هي خصمه، ولن تسمح بنجاحه، ولكن ردّ على من حذروه من الفشل بالقول: «ما يهمني هو ثقة الشعب بي وليس النيابة». وبالفعل فقد كانت مهرجاناته الانتخابية تجمعات لأبناء الوطن كله.
وبعد المعركة الانتخابية، ذهب في أبريل/ نيسان 2007 في رحلة لحضور فعاليات نضالية عربية في لبنان وسورية والأردن ومصر، وأخيراً المغرب. كانت رحلة مجهدة لمن هو في نفس صحته وعمره، وهكذا انتكست صحته ودخل في غيبوبة طويلة امتدت لأكثر من أربع سنوات، تنقل فيها الجسد العليل ما بين المغرب والسعودية والبحرين. وكما كان دائماً فقد كانت المستشفيات محطاً لرفاقه وأصدقائه العرب وغير العرب، أضحى بيته في قلالي حيث سُجّي الجسد العليل، مقصداً لرفقاء النضال.
وأخيراً انتقل إلى جوار ربّه في سبتمبر 2011، في ظل أجواء وظروف صعبة على شعب البحرين، ليشعل موته الأمل مرة أخرى بوحدة ونهوض شعب البحرين. واليوم وبعد سنتين من الغياب، فإن أبا أمل حاضر بأسرته الصغيرة (النعيمي) والكبيرة شعب البحرين، والشعب العربي، حاضر بسيرته النضالية العطرة، حاضر في «وعد» الصامدة وأمينها العام ابراهيم شريف، حاضر في الروح النضالية الوطنية القومية الأممية التي زرعها وجسّدها في نضاله وحياته. أبو أمل خالدٌ ثابتٌ في تربة البحرين، شامخٌ في سمائها كنخيل بلادي الشامخة.
إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"العدد 4029 - الثلثاء 17 سبتمبر 2013م الموافق 12 ذي القعدة 1434هـ
عبدالرحمن النعيمي
أشكرك دكتور على سرد البعض من سيرة المناضل الكبير الذي افنى حياته من اجل امته الأمة العربية عامة والبحرين خاصة, ومهما كتبت وكتب غيرك الكثيرون فلن يوفى حق هذا الرمزالوطن الشامخ. ويكفيه فخرا استقبال الجماهير له بالورود أثناء عودته من المنفى, وبقي بينها حتى ودعته بالدموع في يوم رحيله, وسيبقى بينها بعد الرحيل. فرحمك الله يا أبا أمل. (محرقي/حايكي)
الله يرحمه
الله يرحمه ، كان وفيا لشعبه ومناضل عنيد ضد الطائفيه والقوى الظلاميه ، رحمه الباري ولم يعش زمن ارتداد رفاقه وسقوطهم في مستنقع الطائفية واصبحوا ذيلا للقوى الظلامية ، الله يرحمه
رحمه الله كان رجلا وطنيا مخلصا
هكذا هم رجال البحرين لا تهمهم الطائفة ولا غيرها ما يهمهم هو الوطن عاش وطنيا مخلصا وذهب الى جوار ربه واثقا من خطاه
من المسائل العالقة ولم تذهب الى لا هاي
التدخل الأمريكي وعدم تدخلها في حل أو طرد الصهاينة من فلسطين بات اليوم واضحا أن أبوما حائز على جائز نوبل للسلام لكنه لم يحل أو يحلحل القضية الفلسطينيه المعلقة. كما أن مشاكل أخرى كانت ورائها عصابة من التجار الجشعين والطماعين وشبكات تجسس على الناس- يعني هل من الأخلاق التدخل في شؤن الغير؟ أو كلما زاد ماله قلت أخلاقه؟
لا ينكر الفضل إلا قليل ..
النعيمي الجمري الذوادي ودويغر وشهداء مثل أبونفور والعويناتي ومجيد مرهون وغيرهم كثر من من ضحوا بأنفسهم من أجل غيرهم. يعني آثروا أن يتعبوا من أجل غيرهم. اليوم قد لا يعرف الكثير من كانوا ولما ناضلوا. ألم يناضلوا ويكافحوا من أجل العدالة والمساواة والدمقراطية كما اليوم الناس لم تقل لا للعدل بل نعم للسلم ونعم للعدل ولا للضلم والعدوان – يعني الإعتداء على الناس بدون وجه حق. وأين الحق من الباطل؟ أو أين الخير من الشر؟