لقد استمعت بإمعان لخطاب الرئيس الأميركي الموجه للعالم الإسلامي من جامعة القاهرة وقد لفت نظري فيه حقائق ثلاث:
الأولى: لمست صدق الرجل في تعبيره عما يفكر، وإن كل كلمة تفوه بها كان يعنيها تماما. وهذا بخلاف كثير من القادة الأميركيين أو الأوروبيين أو من دولنا العربية والإسلامية، ولهذا عبّر القرآن الكريم عن ذلك بنوع من اللوم والعتاب لأمثالنا بقوله «لم تقولون ما لا تفعلون. كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون» (الصف: 2-3).
الثانية: إنه كان صريحا وواضحا في تناوله للقضايا التي تهمّ العرب والمسلمين داعيا إليهم بالتفكير بعقلانية، وبلغة السياسة الواقعية، فمعاناة الفلسطينيين تحت الاحتلال لا تبرر قتل الأبرياء، وأعمال القمع الإسرائيلية لا تبرر الرد بنفس المكيال خاصة إذا كانت الظروف الموضوعية لا تبرر ذلك ولا تسمح به، وأعمال العنف ليست هي التي تحرر الشعوب من الاحتلال ولا حتى من الحكم الاستبدادي الظالم كما حدث مع السود في أميركا أو غيرهم.
الثالثة: إن لغة الخطاب ومعانيه كانت متوازنة في توجيه النقد للأطراف كافة العرب و «إسرائيل» والفلسطينيين، الاستعمار وآثاره، الاحتلال وقمعه، العدوان وغزو العراق مقارنة بالهجوم على أفغانستان. حقوق الإنسان والديمقراطية مقارنة بفرضها من الخارج، وهكذا مفاهيم متداخلة وأحيانا متعارضة وينبغي إجراء الموازنات الدقيقة.
وفي تناوله للقضايا السبع التي جاءت في خطابه نجد أن أسلوبه اتسم بعمق التحليل وصدق الرؤية والتعبير عن الأمل سواء بالنسبة إلى قضايا التنمية أو الديمقراطية أو خلق عالم خالٍ من التسلح النووي وتكدس السلاح.
ولكن المتشككين والمرجفين لن يروقهم ذلك سواء من العرب أو المسلمين أو «إسرائيل» بل وحتى من بين الأميركيين المحافظين الجدد الذين اتهموه بأنه مسلم مقنع، وأنه شيوعي مقنع، بل وبعض كتّابنا العرب صوّره في مثاليته بأنه غورباتشوف الذي جاء ليفكك الامبراطورية الأميركية ويدمر الولايات المتحدة كما فعل غورباتشوف مع الاتحاد السوفياتي.
والمرجفون والمتشككون من العرب والمسلمين يقولون ما أكثر ما سمعنا هذا الكلام الجميل المعسول، والمهم هو الأفعال وليس الأقوال. ويرون أنه لن يستطيع أن يحقق كل ما عبّر عنه من أفكار وطموحات؛ فالولايات المتحدة بها قوى ومؤسسات أقوى من الرئيس، و «إسرائيل» لن ترضى عنه، وستحرك اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة ضده. وأنا أتفق مع ذلك، بل أضيف أن «إسرائيل» ستحرك عملاءها من الفلسطينيين للقيام بأعمال تفجير بأماكن معينة في «إسرائيل»، حتى تثيره وتثير أعداء العرب ضد أوباما وتظهر أن تصوراته خاطئة، وأن العرب لا يريدون السلام ولا يستحقونه وعملاء «إسرائيل» بين الفلسطينيين كثر، وخاصة من يبدون التطرف والتشدد، إنهم من العملاء المقنعين لأنهم يخدمون هدف «إسرائيل» وغايتها في رفض السلام والتوسع والسيطرة والاستيلاء على الأراضي.
ولكن السؤال المطروح: وماذا بعد؟
في تقديري أن أوباما قد ألقى الأفكار التي لديه، وهي أفكار عاقلة ومعتدلة ومتوازنة وصريحة، وأنه نجح بامتياز في الدرس الأول لكسب قلوب المسلمين وبعض عقولهم. ولكن المشكلة ذات أبعاد ثلاثة:
أولها الفكر وما أكثر ما لدينا ولدى الآخرين من أفكار.
الثاني: العمل، أي السعي للتنفيذ لهذه الأفكار.
الثالث: متابعة الأمور وإعادة تقييمها.
وهذه الأبعاد الثلاثة في حاجة إلى مجموعة من الملاحظات العامة والتي نذكر منها:
الملاحظة الأولى: إنه تحدث عن حضارة الإسلام وعظمة الإسلام ولكنه لم يشر إلى تراجع الإسلام كحضارة وكفكر وأنه تحول الآن إلى شعائر وطقوس شكلية. وبالتأكيد هو يعرف ذلك ولكنه تحاشاه لأن هذا ليس مهمته؛ فهو زعيم سياسي وليس زعيما دينيا، وهو في الوقت نفسه لا يرى في أن يقدم وعظا للآخرين، وإنما ذكّر الجميع بتاريخ الإسلام وحضارته ومساهماته في تطور البشرية. ومن ثم فإن هذا القول لذوي الألباب يعني استيقظوا أيها النيام من غفلتكم، وهبّوا من سباتكم، ونقّبوا في تاريخكم لتعلموا أن الإسلام وحضارته، بناها الإيمان والعلم، والاثنان صنوان؛ فالإيمان بلا علم لا مساهمة له في الحضارة ويتحول إلى مسألة تأملات روحانية تخص الفرد وليس المجتمع أو الإنسانية، والعلم بلا إيمان مثل السلاح بلا أداة توجيه، وبلا يد تقبض على الزناد وبلا أهداف.
الملاحظة الثانية: إن أوباما كما عبّر بأن الديمقراطية لا تفرض من الخارج فهو ينقل في الوقت نفسه أن الحلول لا تفرض من الخارج، وأن من يتوقعون أن أميركا بيدها عصا سحرية لحل قضية فلسطين، في حين أن الفلسطينيين يتقاتلون ويتبادلون الاتهامات فيما بينهم غير عابئين بقضيتهم، فلا يمكن أن يحلها لهم أوباما ولا أي زعيم مهما بلغت قدرته، أو حسنت نيته. وإن الحل لابد أن يكون واقعيا فمن يعيش في أوهام إزالة «إسرائيل» أو تفكيك المستوطنات لابد أن يفيق على الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي كمن يحلم بعودة لواء الاسكندرونة أو غيرها من الأراضي التي ضاعت أو حتى عودة الأندلس التي عاش فيها العرب والمسلمون ثمانية قرون وفي غمضة عين نتيجة حروب ملوك الطوائف وتآمرهم على بعضهم لمكاسب ذاتية وشخصية، ضاع الكل مع الجميع، وأخشى إذا استمر وضع الفلسطينيين أن يتم اقتطاع أو الاستيلاء الكامل على أراضي الضفة وغزة تنفجر ولا عاقبة ولا عزاء لحماس أو فتح. والمبدأ السياسي أن القوة تفرض الحق وليس العكس خاصة إذا كان أصحاب الحق يتنازعون فيما بينهم فتفشل قوتهم وتذهب ريحهم ويتحول الأمر إلى غيرهم حتى وإن كانوا أصحاب باطل، وكم من الحقوق ضاعت عبر التاريخ.
الملاحظة الثالثة: وقد قيلت بأدب بالغ للقادة العرب الذين ينهبون ثروات شعوبهم وينشرون الفساد في بلادهم وينتهكون الحرمات ولا يحترمون حقوق الإنسان وآدميته، وقد قال لهم أوباما بأسلوب ضمني وإن كان واضح الدلالة، بأن القيم الإنسانية واحدة، واحترام حقوق الأنسان واجب، واحترام المرأة وإعطاؤها حقوقها كافة ضرورة، وربط بين ذلك كله وبين التنمية والتطور الاقتصادي لصالح المجتمع وليس لصالح نخبة أو فئة صغيرة.
الملاحظة الرابعة: إنه لم يتردد في الإشارة إلى حقوق الأقليات سواء الموارنة أو الأقباط ولم يتردد في الإشارة إلى خلافات السنة والشيعة. وهو أراد بذلك أن يؤكد على مبدأ المواطنة المتساوية ويدق ناقوس الاستيقاظ للغافلين الذين يسعون للسيطرة على الأوطان عبر شعارات الهيمنة والسيطرة الايديولوجية والشعارات الديماجوجية.
الملاحظة الخامسة: كان حازما في رده على المرجفين بشأنه ممن قالوا إنه مسلم فأعلن صراحة أنه مسيحي سواء كان هؤلاء من الأميركيين لتشويه سمعته أو من العرب الواهمين الذين يتصورونه المخلّص القادم. ثم كان متوازنا في استشهاده من القرآن الكريم ومن الإنجيل ومن التملود.
الآن الدور على شعوبنا العربية وقادتنا والنخب السياسية والمثقفين للقيام بواجبهم نحو أنفسهم وانتهاز الفرصة التي لا يتوقع أن تتكرر ثانية.
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 2465 - السبت 06 يونيو 2009م الموافق 12 جمادى الآخرة 1430هـ