سُئل عجوز في التسعين غير حكيم: ما الذي تتمنّاه من حيوية؟ قال: أن أكون بطل سباق 5000 متر. وسُئل شابٌ مُقْعدٌ حكيم: ما الذي تتمنّاه وأنت على هذه الحال؟ قال: أن أحمل أمي قبل أن تكون مُقْعدة! الحكمة بنت الحال أيضاً. ليس مصدرها الكتب فحسب. مصدرها مشاهدات ومعاينات الحياة. مصدرها الإضافة عميقاً لتلك المشاهدات والمعاينات، والأهم من ذلك كله: الدخول في التجربة ومعايشتها. معايشتها بقلب وعقل وضمير. وحدهم الغائبون والمُغيّبون الذين تتم مواراتهم في التراب وهم أحياء؛ من دون أن يلتقوا أو يتعرفوا على الحكمة. لا حكمة في غياب. لا حضور لحكمة في غيبوبة.
بمسْح سريع؛ يشكِّل الشباب العربي اليوم أكثر من نصف سكّانه، يُحكمون ممن هم في ما بعد العمر الافتراضي للحياة؛ ليس بفعل سنوات تصرّمتْ؛ بل بفعل تصرّم حتى الدقائق والثواني بفعل خنقهم للأنفاس؛ وكبْسهم على رئة الحياة عموماً. يُحكمون ممن هم خارج الارتباط باللحظة التاريخية وخارج مزاج واهتمامات وأولويات أولئك الشباب. نتحدّث عن أولويات في دولٍ تؤمن بذلك.
أولويات المواطن وليس أولويات من يحكمونه، والبوْن شاسع بين الاثنين.
شباب بحيوية روح وإرادة وطموح، يجدون أنفسهم في ظل هيمنة شيخوخة تفكير وشيخوخة ما لا يدل ويطل على الحياة. هيمنة على أحلامه وأمانيه. حتى الأحلام والأماني مرصودة ولها جيوش من العسس والدَرَك يحجّمونها بتلاوين من الرعب والأذى، وما يحدث في سراديب الاستجواب، بدءاً بنزع الاعترافات، ومروراً بنزْع الأظافر، وانتهاءً باقتلاع وانتزاع الأرواح؛ فقط لأنها في تفكيرها وأحلامها خارج نطاق تفكير التسلّط والطغيان والهيمنة المريضة.
شباب لا يجد تحت شمس بلاده إلا ليل وظلام الاهانات والتهميش والتمييز والوقاحة اليومية في التهديد واستعراض القوة والابتزاز في الأرزاق والحقوق. قوة لا يملكها أولئك الذين كأنهم نسوا أن يموتوا ليزيدوا في من يهيمنون على قرارهم بلاءً، وبؤسهم بؤساً، واختطاف خياراتهم اقتلاعاً، وهو أبعد بدرجات من الاختطاف، لا يحدث ذلك إلا عبْر قوة بالإنابة. قوة من خارج النسيج والحدود في الوقت نفسه.
بين الشاهدين الأوّلين غُصص وقصص. غصص الذين يجدون أنفسهم محكومين بعقلية الكهوف في عصر ما بعد الديجيتال؛ والخريطة الوراثية؛ والدهشة التي يُمسك بها الصغار قبل الذين بلغوا من العمر عتيّاً. وقصص تأبيد خرافة التوكيل من السماء لمن لا يعرف السماء، ولا يؤمن بها ممارسةً على الأرض بالتعاطي مع مخلوقات الله باعتبارها سقْط متاع، وباعتبارها خلقت لرفْد تلك الخرافة بما يعينها على تأبيد خنْقها أنفاس الناس، والأخذ بهم إلى كل مغارة وعتْمة، وفي النهاية: المجهول في الزمن... المعلوم بأثره ودوره وفعله الذي لم يعرفوا.
بين الشاهد الأول العجوز والخمسة آلاف متر في ترميز لنهم نعاينه بالتجربة في شهوة السرقة والتسييج وتسذيج الوعي والأخذ به إلى مراتب من الغياب؛ إن كان للغياب مراتب. وعي (إن وُجد) الذين وجدوا كي يكونوا عبيداً وبهائم ومطبّلين وبصّامين و»كل شيء على ما يرام»، في لازمة (من لزوم) من العبودية الاختيارية أحياناً، والجبرية لاستلال الأرواح والأرزاق أحياناً أخرى. وبين الشاهد الثاني: شاب حكيم مقعد يحلم أن يحمل أمه قبل أن تكون مُقْعدة، في ترميز إلى حمْل بلاده ووطنه قبل أن يُصاب بشيخوخة السياسات وانفصالها عن عالم يحترم بشَره ويحترم نفسه في المقام الأول!
مع المقعد وما يتمنّاه، ترتسم لنا صورة التشبث بالصدارة والحياة ولو في عجز وخرف وجهل. لا يحدث ذلك في حدود وتخوم التمنّي فحسب. الواقع على الأرض يصفعنا بعشرات ومئات الشواهد والمعاينات والنماذج والابتلاءات أيضاً. في الشاهد الثاني حال من كبت وحبس ومصادرة تأتي تحت مظلة قوانين وتشريعات ومجالس «كومبارس» وظيفتها البصْم والتمرير. تمرير الكوارث وكأنها إنجاز بشري فارق وملفت!
تصاب الطاقات والحيويات بالموات والعجز بتوريطها وإقحامها في زوايا التأجيل؛ وليس التأجيل فحسب؛ بل ما هو أبعد من ذلك: إدخالها في دوائر ومتاهات النسيان والإهمال؛ بالمحاربة والاستهداف.
أمَّةٌ يحكمها الخَرَف وتحكمها الشهوة، ويحكمها الوهم ويحكمها الجشع والجهل؛ سيظل الذين يحكمونها يحققون أرقاماً قياسية في التجاوز والنهب والانتهاك والادّعاء والكذب والتجييش والتجنيد والتجنيس والتجيير والفبْركة؛ يتولّى وُرَط الأمة بهم جهاز «إظلامي» تحت مسمّى «إعلامي»، يرى في الجثة حيويةً، وفي الهَرَم طفولةً، وفي النهب هبةً، وفي القتل تُقاةً، وفي العنصرية عصريةً، وفي التمييز البغيض تميّزاً، وفي الشتات جمْعاً، وفي الفتن آخر ما توصّلت إليه جهنمية الإنسان من تعميم المحارق والكوارث!
بعد كل ذلك الإحباط من الشواهد والمعاينات والواقع الغصْب القائم، نحن إزاء حيوية مُصادرة مخنوقة محرومة من حقها في الاطلاع بدورها في تفاصيل الحياة التي هي من المفترض صانعتها، وقائدة حركتها، والدّالة على مجاهلها، والمُحذّرة من أفخاخها، قبالة عجْز لا يكتفي بالوهم وحتى الحلْم؛ بل مصادرة المضمار بالوكالة كي يحتلّ أرقامه القياسية ولو من دون شهود؛ وإن حدث ذلك لا بأس بشهود زُور. وما أكثرهم في هذا الوقت. وقت تفريخ العاهات والعجز، وتفريخ من يشهد ويصفّق لحيويته واستثنائيته المُخلّقة والاصطناعية طبعاً!
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4027 - الأحد 15 سبتمبر 2013م الموافق 10 ذي القعدة 1434هـ
عرش بلقيس وعرش ملكة دمر ودمار عرش الملكة صاحبة العظمة والجهاله
يقال العجوز العمياء كما يقال حيزبونه للمرأة الشمحوطة التي طال عمرها. اليوم جلالة الملكة طويلة العمر يعني مال بريطانيا باتت وأمست على مراهنات بين الياهو يعني سباق الخيل وبين سباق التسلح المنهية صلاحيته. فليس بسر أن القرن الحادي والعشرون حادي وبادي وقد يكون سيد هادي وليس للحرب والإحتراب مناصر إلا لليهود المتأفغنين له مكان. ما سمي بالجهاد في سبيل اليهود – يعني قتل الناس وذبحهم والإتجار بدمهم. ويش إتقول في ناس تتابع الشيطان ومالكهم سلطان – يعني إبليس راكب رأسهم أو متأبلسين؟
المختار الثقفي
سلمتَ وسلمت يداك ... على توصيفك للحال في أبلغ وصف يقال