العدد 4023 - الأربعاء 11 سبتمبر 2013م الموافق 06 ذي القعدة 1434هـ

واحدٌ وتسعون مليون يورو هل تكفي؟

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

يُلزِمك التفكير أن تتأمَّل. وتُلزِمك الكتابة أن تقرأ. ويُلزِمك التحليل أن تربط. ويُلزِمك التحدث أن تسمع. وحين تفكر في كتابة تحليل ما لتتحدث به أمام الناس، يلزمك أن تختار النافع منه. ولكن، في أحيان كثيرة، يفرض عليك الحدث ذاته، أن تتناوله بِخِفِّة واستغراب كونه لا يتحمل أكثر ذلك.
مؤخراً، قرأتُ خبراً أذهلني بحق. فقد نقلت وكالة الأنباء الفرنسية، أن لاعب توتنهام الإنكليزي، غاريث بايل، انضم إلى نادي ريال مدريد «بموجب عقد تمتد مدته لستة أعوام بحسب ما أعلن عنه النادي الملكي» حيث «بلغت قيمة الصفقة 91 مليون يورو بحسب ما ذكرته قناة ريال مدريد».
وفي تَتِمَّة للخبر، فقد قيل بأن تقديرات الصفقة المذكورة قد تعددت. فالصحافة الاسبانية قالت أن الصفقة، هي واحدٌ وتسعون مليون يورو، بينما الصحافة البريطانية قالت أنها 101 مليون يورو، في حين، ذكرت الـ بي بي سي أن المبلغ هو تسعة وتسعون مليون يورو! في كل الأحوال، فإن الصفقة في أدناها 91 مليون يورو، وفي أعلاها مئة مليون وواحد، وبالتالي فهي «صفقة مليونية»!
واحدٌ وتسعون مليون يورو! أي (119٬919٬000 دولار أميركي)! وبالدينار البحريني تعني أنها (44٬937٬200 دينار)! ولو شاء غاريث بايل أن يذهب بأموال صفقته للهند ويستقر فيها، فسيكون معه سبعة مليارات وسبعمئة وثلاثة وأربعون مليون روبية هندية. ولو شاء أن يذهب بها للصين فسيكون معه (738٬813٬000 رينمينبي يوان). وهي عند كل أرض ستكون وفيرة له. يا إلهي!
بالتأكيد، لم تنتهي الصدمة بالنسبة لي إلى هنا فقط، فقد أشارت التقارير الصحافية المواكِبَة للصفقة، أن أحد المستشفيات (وهو مستشفى سانيتاس) الذي أجرى الفحص الطبي على هذا اللاعب (غاريث بيل) دفع للنادي الملكي عشرة ملايين يورو «مقابل إجراء هذا الفحص بشكل حصري»!. تخيّلوا أن فحصاً طبياً مجانياً وبمقابل مبلغ فَلَكِي! يا سلام.
لنا أن نسرَح بخيالنا قليلاً، فنعيد الحسابات الطبيعية، فنقرأ، أن قيمة مبادلة غاريث بيل، الـ 91 مليون يورو (أو 119 مليون بعد تحويلها للدولار الأميركي) هي تساوي إغلاق صفقة تسهيلات ائتمانية دوَّارة في دولة خليجية، عبر تخصيص مبلغ مماثل، لكل جهة من جهات الإقراض. وأنها تساوي أرباح شركة اتصالات ضخمة في ربع عام! وكذلك تساوي مجمل عائدات ضرائب خاصة بالاتصالات في إحدى الدول العربية، وتساوي قيمة عشرات من المناقصات لمشاريع باهظة!
إلى هنا، وينتهي جنون الأرقام، ليبدأ القلم في البحث عن كلمات مُرتجِفة، وحروفٍ غائبة! هذه الصفقات الرياضية الضخمة، استحضرها وأنا أقرأ مآسي البشر، الذين يُعانون كلٌّ ومأساته. وربما لا يُمكن القياس على ذلك، كَوْن الفقر، مسألة قد لا تنتهي في أي مستقبل منظور وغير منظور حتى، لكنني قد أسمح لنفسي أن أقارب مثل تلك الأموال الرياضية على نشاطات أخرى.
خلال مشوار الكتابة والبحث، تستوقفك في أحيان كثيرة، المعاناة التي يعيشها أصحاب الأفكار والعلم، الذين نذروا أنفسهم لخدمة البشرية، مقابل فتات مادي، لا يُقاس أبداً بالجهد الذي بذلوه، فضلاً عن «دريهمات» مقابل ما يُنفَق على لاعبي الكرة العالميين من مبالغ «مليونية». عندما أرى هذه الكتب والموسوعات العلمية، التي سَهَرَت عليها أعينٌ وذابت في سبيلها أكتاف، وانحنت من أجلها أصابع، وتكسرت على قرطاسها أقلام، أتساءل: هل قُدِّرَ ذلك الجهد بأي مال أو تقدير؟
أضرب مثالاً هنا. المؤرخة والأستاذة الجامعية غيردا ليرنر، كَتَبَتْ كتابها «نشأة النظام الأبوي» في سبعة أعوام. وأوقدت أفكاره في خمسة عشر عاماً. اضطرت خلالها لأن تقرأ وتراجع آلاف المصادر في الشرق والغرب. ثم قدَّمت تصورها النظري له في ورشة بجامعة نيويورك. وبعد كل هذا الجهد، نالتْ ليرنر مِنحةً من مؤسسة غننهايم مدة سنة، ثم مِنحة صيفية من جامعة وسكنسون – ماديسون، وتعيينها كأستاذة باحثة متحررة من الالتزامات التدريسية! هذا هو الأجر فقط لا غير، وهو بِحَدِّ الكفاف وليس الكفاية حتى.
بماذا كُوفِي العالِم الكبير في الآثار والتاريخ، دونالد ريدفورد، بعدما أظهر هوية العالَم الإنسانية، بِسَبرِ تاريخه من العصر البَيْن جليدي الثالث والعصر الجليدي الرابع والأخير (150 ألف سنة) حتى تدمير أورشليم! بماذا كُوفِئ جوزيف لوكلير، عندما غاص في عشرات الآلاف من الكتب، كي يُخرِجَ لنا هوية متسامحة، في ألف ومئتين وثلاثة وعشرين صفحة من البحث المعمَّق؟ ليس هؤلاء فقط، بل هناك العديد من البحَّاثة والعلماء العظام، مَنْ لم يُقدَّروا بأعشار ما بذلوه من جهد، فضلاً عن أن يكونوا قد مُنحُوا ما يُمنَح الرياضيون من مبالغ مالية ضخمة لا تحملها راحلة.
وربما تتضاعف هذه المأساة في عالمنا العربي والإسلامي بالنسبة للباحثين وأهل الفكر، حيث تنال أوقات جهدهم في التأليف من حياتهم وأموالهم الخاصة، دون أن يلتفت إليهم أحد، أو يمدّهم بشيء من المال، بل وحتى التشجيع المعنوي (إلاَّ ما نَدَر كي لا نُعَمِّم). نحن لا نتحدث عن واحدٍ وتسعين مليون يورو، بل عن فتات ذلك، سواءً أكَان ذلك في تفريغهم من أعمالهم أو النظر في مخصصاتهم المادية التي عادةً ما تشغل المرء عن مثل هذه الاهتمامات، وتجعله يحمل همَّها.
خلاصة القول، أن أهل العلم في هذا العالَم بحاجة إلى تقدير. بالتأكيد هم لا يريدون الملايين من الدولارات ولا يطلبونها، بل هم لا يريدون أن يحملوا هماً غير ما هُم متوجهون إليه من بحث ورصد وتنقيب. وفي ذلك شيء لا يُذكر من البذل والتحفيز، نحو الإنتاج، أو على أقل تقدير، تسريع وتيرته.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4023 - الأربعاء 11 سبتمبر 2013م الموافق 06 ذي القعدة 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 2:06 ص

      العلم ممنوع

      في الوطن العربي يُمنَع العلم، فكم من كتابٍ أوْقِف لأن توجهاته ليست كما يريدها (فلان) وكم من طموح قُتِلَ فكريًّا بسبب عدم رضا (فلان) عنه.

    • زائر 3 | 1:24 ص

      واحد وتسعون مليون

      نعم الملايين تصرف وأبناء الشعب عاطلون عن العمل وبعضهم في السجون والبعض من أعمالهم مفصولون

    • زائر 1 | 11:52 م

      صح لسانك

      إي والله مفارقة عجيبة!!!!! ملايين تصرف على الملاعب والعقول مهجورة

اقرأ ايضاً