العدد 4018 - الجمعة 06 سبتمبر 2013م الموافق 01 ذي القعدة 1434هـ

تاريخ دلمون العائم... التمائم الصدفية بين الحقائق والمسلَّمات

هناك نوعان من التاريخ الذي يُكتب حول دلمون، تاريخ يتم نقاشه في البحوث المحكمة والكتب الأكاديمية، والتي تكتب بأسلوب علمي ولغة أجنبية غير عربية، والتي تكون في الغالب باهظة الثمن ولا تكون متوافرة لكل المهتمين بتاريخ دلمون.

وهناك تاريخ آخر لدلمون يتم تداوله، وإعادة تكراره، حتى غدا من الحقائق المسلم بها، على الرغم أن هذا التاريخ المتداول اعتمد على معلومات قديمة خضع أغلبها للنقاش والتعديل وإعادة النشر بصورة علمية.

الفارق كبير بين هذين النوعين من التاريخ؛ فالأول، خاضع لعمليات النقاش والنقد والتمحيص والتعديل، أما الآخر فهو مجرد معلومات قديمة، تم التسليم بصحتها وهو التاريخ الأكثر رواجاً بين العامة لكونه التاريخ الذي يتم إعادة كتابته، مراراً وتكراراً، في وسائل الإعلام المتاحة للجميع. ويبقى التاريخ الفعلي، الذي يخضع للتمحيص بصورة مستمرة، متداول بصورة شبه حصرية بين المختصين والباحثين.

ومع تطور وسائل نقل المعلومات ظهرت العديد من المواقع الإلكترونية، على الشبكة العنكبوتية، متخصصة في التاريخ القديم للحضارات المختلفة، تلك المواقع تخص مراكز أبحاث وجامعات وغيرها من المؤسسات العلمية التابعة لدول معينة، والتي توفر أرشيفاً رقمياً مجاناً للدراسات التخصصية.

في هذه المواقع يمكنك العثور على مئات الدراسات العلمية المتخصصة في التاريخ القديم للحضارات القديمة في الخليج العربي وبلاد الرافدين وغيرها، ولكن نادراً ما يمكن العثور على دراسات تخص دلمون، فهذه الدراسات الأخيرة لا تقدم بصورة مجانية بل تكون باهظة الثمن؛ وبذلك يبقى تاريخ دلمون المتداول هو الذي يعاد كتابته، مراراً وتكراراً، بكل ما فيه من أخطاء.

وليس فقط تاريخ دلمون، بل أصبح تاريخ البحرين بأكمله يكتب بمسلمات تاريخية قديمة، منها ما هو مجرد اجتهادات أو فرضيات شخصية. وكل كاتب يكتب ما يحب أن يقرأه القراء التي توجه لهم الكتابة، فيصبح هذا التاريخ مجرد كلمات تدغدغ مشاعر القارئ وتشل عقله عن التفكير، حتى نست أو تناست العامة أن التاريخ علم يخضع للنقد والتحقيق بصورة علمية.

التمائم الصدفية

بين الحقائق والمسلمات

التمائم الصدفية التي نقصدها هنا هي تلك التي تحضر من قوقعة الحيوان المخروطي Conus، وفي الغالب تكون على شكل أقراص مسطحة تقريباً أو مقعرة بعض الشيء (Conus Discs) أو قد تكون عبارة عن الجزء الحلزوني العلوي من القوقعة (Conus Whorls) أو على شكل حلقات وهي في الواقع عبارة عن الجزء الحلزوني العلوي، ولكنه مجوف (Conus Rings).

وهناك اسم عام لهذه التمائم، حيث إنها تسمى خرزات صدفية Shell beads. وقد عثر على العديد من التمائم الصدفية بمختلف أنواعها في الحضارات التي قامت على سواحل الخليج العربي وبلاد الرافدين وإيران ووادي السند، ويعود بعضها للألف الرابع قبل الميلاد، أي قبل أن تُأسس دلمون بأكثر من ألف عام.

وفي البحرين عثر على قرابة 300 تميمة صدفية، غالباً في القبور التي تعود للحقبة الدلمونية، منها ما هو على شكل قرص ومنها ما هو الجزء العلوي الحلزوني، ومنها ما هو على شكل حلقة (صويلح 1999).

وقبل نهاية السبعينات من القرن المنصرم كانت تعتبر هذه التمائم في البحرين على أنها خرزات أو حلي تجميل كما هو متعارف عليه في الحضارات الأخرى، ولكن في نهاية السبعينات تم العثور على عددٍ من تلك التمائم لها شكل خارجي يشبه الأختام الدلمونية؛ وعليه تم اختيار قرابة 32 تميمة واعتبارها أختام صدفية دلمونية (Al Khalifah 1986).

إلا أنه بعد ذلك تم تعميم مصطلح «أختام صدفية» على التمائم الصدفية بجميع أشكالها، حتى أصبحت من المسلمات التي لا تخضع للنقاش.

هناك دراسة واحدة تم فيها انتقاد تلك المسلمات، وهي دراسة عبدالعزيز صويلح (صويلح 1999)، الذي لم يعتبر تلك التمائم أختام صدفية، لكنه للأسف لم يعتمد في دراسته على المقارنة، بل كانت دراسته وصفية بحتة، وتناول فيها التمائم الصدفية في دلمون دون مقارنتها بشبيهتها في الثقافات الأخرى؛ وبذلك تم عزل دلمون عن الثقافات الأخرى.

هناك كم كبير من الدراسات حول التمائم الصدفية التي تصنع من القواقع المخروطية في العديد من الثقافات القديمة والمعاصرة، سواء في الخليج العربي أو بعيداً عن الخليج العربي.

في تلك الدراسات تم تناول الأهمية الطقسية والرمزية وكذلك الاقتصادية لهذه التمائم. ومع ذلك يصر البعض على تعميم اسم «أختام صدفية» على هذه التمائم، حتى مع غياب الدليل المادي الذي يثبت أن هذه التمائم استخدمت كأختام.

في واقع الأمر، أن من يصر على اعتبار هذه التمائم «أختام صدفية» يقع في ثلاث مغالطات أساسية:

1 – عزل دلمون عن بقية الحضارات المجاورة لها والتي تفاعلت معها.

2 – تعميم مسمى «أختام صدفية» على كل أنواع التمائم الصدفية، على الرغم أنها كانت في الأصل تخص 32 تميمة فقط.

3 – إهمال مصدر القواقع المخروطية التي صنعت منها الأختام والتسليم بأنها كانت توجد على سواحل البحرين.

ثقافة دلمون والثقافات الأخرى

المرجح أن ثقافة دلمون بدأت مرحلة النضج في نهاية الألف الثالث قبل الميلاد، وهذا التاريخ حديث نسبياً مقارنة بالحضارات الأخرى التي تأثرت بها دلمون، كتلك التي نشأت في الجزيرة العربية أو حضارات بلاد الرافدين أو إيران أو وسط أسيا أو وادي السند.

والمرجح كذلك أن دلمون اقتبست العديد من العناصر الثقافية من تلك الحضارات، لكنها قامت بتطويرها وإعطائها طابع خاص بدلمون؛ على سبيل المثال، الأختام الدلمونية، صممت في الأساس حسب نموذج مقتبس عن أختام حضارات وسط أسيا (Laursen 2010).

وقد خصصت During-Caspers عدة دراسات لدراسة تأثيرات حضارات وسط أسيا ووادي السند على الصناعات الدلمونية، واتضح من تلك الدراسات وجود أدوات صنعت في دلمون لكنها تقليد لأدوات توجد في حضارات أخرى، فشعب دلمون بدلاً من استيراد أدوات معينة بدأ يصنع أدوات شبيها بها ولكن لها طابع دلموني معين، انظر على سبيل المثال (During-Caspers 1992, 1994, 1996).

التمائم الصدفية ليست استثناء، فهي تقليد لتمائم تصنع في الحضارات المجاورة. سنعطي هنا مثالاً واحداً وفي الفصول القادمة سنعطي أمثلة أكثر لها. إحدى الأقراص الصدفية المحضرة من القواقع المخروطية والتي اعتبرت أنها ختماً دلمونياً صدفياً عبارة عن قرص مزين بزخرفة عبارة عن أربع دوائر وفي وسط كل دائرة نقطة (انظر الصورة المرفقة)، هذه الزخرفة شبيهة بالزخرفة التي توجد على الوجه الظهري للأختام الدلمونية.

هذا القرص الصدفي ليس حصرياً على دلمون بل عثر على أقراص مشابهة تماماً له وبنفس الزخرفة المرسومة عليه، وذلك في العديد من المواقع الأثرية في إيران والعراق والإمارات العربية وسلطنة عمان (Reese 1989) و (Vogt and Kastner 1987, pp. 32-33, fig. 18).

في جميع تلك المناطق تعتبر أقراصاً صدفية، بينما في البحرين أختلف عليها، فصنفها البعض على أنها «أختام صدفية» (Al Khalifah 1986) بينما يصفها البعض الآخر بأنها تمائم صدفية (Marquis and Salles 1984, p. 84, ph. 78, pl. XXVIII)...

يتبع.

العدد 4018 - الجمعة 06 سبتمبر 2013م الموافق 01 ذي القعدة 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً