رَحَلَ الرئيس الزائيري الأسبق موبوتو سيسسيكو (صاحب القبَّعَة النَّمريَّة والملابس الغريبة) عن الدنيا وعمره 67 عاماً، قضى منها اثنين وثلاثين عاماً في السلطة المطلقة، المليئة بالظلم والخصومة والصراعات الداخلية، امتدت من العام 1965 وحتى العام 1997، ما يعني، أنه استلم الحكم، وعمره لم يتجاوز الخمسة والثلاثين سنة.
ولو فكَّكنا سنين موبوتو ما قبل حكمه، لرأينا أنه قضى شيئاً منها في الطفولة، ثم طالباً في المدرسة. وعندما وَصَلَ إلى سِنّ العشرين، سِيْقَ للانضمام في جيش عنصري، يُسيطر فيه البلجيكيون «البِيض» كـ مُستعمِرِين (آنذاك) على الأفارقة السود.
وفي سن السابعة والعشرين، أصبح صحافياً في صحيفة «ليبودفي». وبعد ثلاث سنوات دَخَلَ العمل التنفيذي بتعيينه وزيراً في حكومة «الاستقلال» مستفيداً من قربه من باترس لومومبا، الذي كان قد التقاه عندما كان موبوتو صحافياً عند أنطوني بولامبا.
وبالحسابات الرياضية، فإن موبوتو عاش عشر سنوات فقط، فيها حرية شخصية، وأمان ذاتي، وفي قول وفِعل ما يريد. عشر سنوات فقط عاش فيها بمسئولية أقل، وبأعداء أقل، وبأصدقاء أكثر، وبريبة أقل، وبراحة أكثر، وبنفاق أقل، وبنوم أكثر وبحسابات أقل.
كل تلك الامتيازات فَقَدَها موبوتو سيسسيكو عندما وَصَلَ إلى الحكم. بل إن الحقيقة، أنها امتيازاتٌ يفقدها كل مَنْ يُصارع من أجل أن يكون حاكماً مطلقاً على مُتَحَكَّمين، وراعٍ مستبد على رعية. وفي جردة ليس فيها مُكابرة، سنجد أن فقدَ تلك الأشياء هو في حد ذاته يعتبر معركة ضارية تحتاج إلى قوة جبارة.
هل يستطيع أن يفعل حاكمٌ مستبد ما أروم فعله أنا العامي ضمن حريتي الشخصية، سواء في الانفراد أو الانسحاب والانصراف، والحرية البدنية في التنقل، والإقامة والمكوث في الأماكن التي أريدها؟ وهي كلها تعريفات قانونية وَرَدَت في توصيف الحرية الشخصية.
هل يستطيع حاكمٌ مستبد أن يتنقل كما يريد بالكيفية المُبسَّطة ذاتها التي يقوم بها العامي، فلا يحتاج إلى موكب، ولا لحراسة، ولا لمسح أمني مُسبق، ولا لرقابة، ولا لتابعين له من حاشية وحماية، ولا أن ينحصر بوقت، وألا يأتيه الطالبون من كل حدب وصوب، من الذين يظهرون له مظلوميتهم منه ومن سياساته؟!
هل يستطيع حاكمٌ مستبد أن يدَّعي أن أعداءه أقل مما يُعانيه أي عامي في خصوماته، حين لا يُعدَّون ولا يُحصَون، وفي أحيان كثيرة، تغدو عداوتهم له عداوة خاصة، تنتهي في كثير من الأحيان، إلى تمني الفناء والزوال، وفي أقلها حبس الضغائن ضده في القلوب.
ما حجم الريبة التي يُبتَلى بها أحد الناس، مقارنة بريبة الحكَّام المستبدين في كل ما حولهم، حين تُقدَّم لهم التقارير، التي تُظهِر حجم الخصومات القائمة ضدهم، والنِّدِّيات المزاحمة لسلطتهم، فضلاً عن التصريحات والأحاديث وحتى التمنيات التي تُقال بحقهم سلباً، في المجالس المغلقة وحتى في الساحات العامة؟!
كم من منافق يحوط بفقير أو عامي، إذا ما قِيسَ الحال بدوائر النفاق، التي تحيط بالزعماء المستبدين، فلا يسمعون إلاَّ لغة الإطراء من مُحدِّثيهم، والإشادة بما ليس فيهم، أو تشجيعهم على الزَّلل والخطأ، حتى يغيب عنهم الخيط الأبيض من الأسود في ذلك.
أما في النومِ، فلا أعتقد أن حاكماً مستبداً يستطيع أن يُجاري عوام الناس فيه. ينامون وفي شاغلهم القليل من الناس وتبعاتهم، لا يهمهم تفكير في حسابات مالية مليونية ولا هم يحزنون. أما الحكام المستبدون، فأعينهم تنام وخلفهم خلق كثير بتعداد شعيرات الرأس، يدعون عليهم، ويتمنون فيهم ما يتمناه المظلوم في حق الظالم.
ذَكَرَ لي أحدهم حادثة شهدها هو، من أن مسئولاً عربياً كبيراً زار سوقاً لبيع الأسماك في بلاده، وكانت تعجُّ بالباعة، وبالصيادين، وبمجالس مضاربات البيع وجَلِبَاتها. وكانت أرض السوق كالعادة، تفوح زُهْماً من رائحة السمك، والجميع، يسحب ملابسه إلى الأعلى خشية اتساخها بالأرض، ومياهها النَّتِنَة.
يقول مُحدِّثي إنه ووسط تلك الأجواء، وُجِدَ عجوزٌ يتوسَّد خُفَّ نعْلَيْه، ويغط في نومٍ عميق وسط ذلك الزحام والصراخ وتلك الروائح! علَّق أحد مرافقي ذلك المسئول بالقول، إنه لطالما تمنَّى أن يستغرق في نومه كهذا، على رغم أن سريره قطني مُجَلَّلٌ بالحرير لا يُعادله منام، بل إن جُدُر غرفته صُمِّمت لتمنع نفاذ الصوت إلى الداخل، ولكن هيهات!
بين هذين العالَمَيْن، وهاتيْن الحياتيْن، ألا يحق لنا أن نعيد توصيف لفظة «المسكين»؟! فلا تعني تلك الكلمة ذوي الفقر المُدقِع كما هو معروف، بل هم أولئك الذين أسكن كرسي حكمهم القاسي قدرتهم على الاستمتاع بما لديهم وكأنهم في محبَسٍ وقَيْد؟! (إذا ما أخذنا تخريجة الأزهري في معنى السِّكين كما جاء في لسان العرب).
نعم، قد تتوافر الأشياء المادية جميعها للبعض، لكن وسائل الاستمتاع لا تنحصر فيها أبداً. فالمادة شيء، ومناخ الاستمتاع بها شيء آخر. لذا، فهي (أي المادة) بقيمة الجسد، والاستمتاع بها وتذوقها بقيمة الروح. والأجساد بلا أرواح، لا قيمة لها أبداً.
كما أن هناك علاقة طردية وثيقة بين سِعَة الهم، وسِعَة الأسقام. فكلما زادت الهموم، واتسع نطاقها، زادت الأدواء معها. ليس بالضرورة أن تكون أدواء بدنيَّة، بل هي نفسية أيضاً. فإن حاذَرتَ عن جرح البدن، فإن أسقام الروح، كفيلة بإيذائه وصرعه حتى.
ملاحظة أخيرة قبل أن أضع نقطة الختام. فقد تَنَدَّرتُ بالرئيس الزائيري الأسبق موبوتو سيسسيكو، لسببين. الأول: أن اليوم السبت، السابع من سبتمبر يُصادف ذكرى رحيله، بعد صراع طويل مع مرض السرطان.
والثاني: أن هذا الرجل هو خير مثال لأن نتحدث عنه ومن خلاله. فهو أولاً كان صاحب العمر الأقصر خارج بيت الحكم. وأيضاً، كان بالفعل، حاكماً مستبداً طوال فترة حكمه، منعته من أن يعيش بأمان وراحة وسط شعبه، حتى انتهى به الحال هارباً، وهو يتلوَّى من مرضه.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4018 - الجمعة 06 سبتمبر 2013م الموافق 01 ذي القعدة 1434هـ
شكرا لك
انت يا استاد تمتلك القدره التي تضع القارئ في الجو والمحيط والمكان الدي ترسمه بكلماتك وعلمك . بارك الله فيك وعيني عليك بارده .
فوق هذا سرطانات
والملاحظ أن أكثر الزعماء يصابون بالأمراض السرطانية الخطيرة . أمرهم غريب!!
مع قيام الثورات
بعد إعدام صدام وهروب بن علي وقتل القذافي ومحاكمة مبارك وعزل علي عبد الله صالح والثورة على بشار أصبحت أحلام هؤلاء الحكام المستبدون تضيق اكثر فأكثر وبات امنهم مهدد ومستقبلهم في مهب الريح