العدد 4011 - الجمعة 30 أغسطس 2013م الموافق 23 شوال 1434هـ

قراءة في قصيدة الشاعر أحمد رضي «هو الحب حين يضيء»

الحب في كهوف التجلي

في ديوانه «ما قالته الآلهات للرائي»، والصادر عن دار فراديس للتوزيع والنشر، يدير الشاعر أحمد رضي قصيدته من خلال ذلك السؤال المعمق حول الحب. ذلك الحب الذي يقف على سلم المشاعر الإنسانية ويسيح في اتجاهات متعددة. لكنه في القصيدة يضبط إيقاعه من خلال تحديد الحب باعتباره تلك الحالة الإنسانية التي تمتد بين رجل وامرأة ليكونا كائناً واحداً تمتد البشرية عبره نحو آفاق جديدة للحياة. ويبدو أن معالجة الحب مضبوطة الإيقاع في تراثنا العربي، فمنذ عرفنا الأساطير كان الحب محركاً للبطولة كما في قصة عنتر وعبلة الذي يذهب نحو كسر العبودية من خلال البطولة التي تجلل الحب، أو من مراياه المتعددة ينبع الشعر العربي من كل الحبيبات اللواتي اصطرعن منذ رحيل صناجة العرب عن هريرة وتوديعها إلى تلك الدواوين المجلجلة التي كتب فيها نزار قباني صيحات الحب محاولاً الذهاب نحو كسر التابو في التعبير عن الأنثى التي ظل اللغط قائماً حول قدرته على التعبير عنها، كما كتب كم هائل في الشعرية العربية عن الحب.

ولعل ما يميز شاعرنا أنه ذهب في سؤال فلسفي عن كنه الحب، وأداره من خلال السؤال عن ماهية الحب وما هو شكله وبأي سماء يطير، ولكنه لا يترك ذات الشاعر وحيدة في تلفت نحو هذا السؤال، إنما يشرك فيه ذلك الحوار الداخلي مستبطناً ما يتلبسه عبر تلك الفتاة التي عمر نهديها عام ونصف، والتي تسأل أيضاً عن ماهية الحب وشكله وبأي سماء يطير. كذلك يدخل الشاعر فيما يشبه الاستبطان لقول صديق رآه يقطر ماء الأغاني، ومن فنجانه يعب القصائد، إلا أنه دخل في الحوار والاستبطان ذاتهما. يذهب نحو سيدة في الثلاثين تجمدت القبلات على شفتيها لتتساءل فيما بعد عن أين هو الحب وما شكله وبأي سماء يطير. ثم ينتقل الشاعر في حركة أخيرة نحو إغلاق بنية القصيدة ليدخل حالة من الغشية لينكشف أمامه بطلان السؤال حول الحب وما شكله وبأي سماء يطير. إنه الفعل الإنساني الذي عبر عنه الشاعر ذات قول بأن دواءه حك البطون على البطون، فالحب ليس مشاعراً فقط وإنما هو الفعل الإنساني الذي يقود الإنسان لمقاومة الموت، إنه فعل التكاثر من خلال تلك الرابطة العجيبة التي نسميها الحب.

إن تقنية إدارة السؤال داخل القصيدة يذهب نحو تلك التحولات الإنسانية التي تستبطن الحب الجنسي كما تمرره التجارب الإنسانية. ولعل الشاعر لا يفلت من تراثه حين يشير إلى المرأة التي في الثلاثين والتي ترى في يد الشاب الوسيم قمران وسبع سنابل. تلك التي تحيلنا إلى القرآن في سورة يوسف، وما يرتبط بالمنام وتأويل الأحلام، لكن فتاها يذوب في رحم شمس تذوب بعد أن يذهب للبعيد البعيد.

وسيدة في الثلاثين

تجمدت القبلات على شفتيها

تقول: وإني أرى في منامي

ظلاً وسيماً، وفي يده

قرمان وسبع سنابل

وحيناً أراه

ببحر أليف

يجدف نحو البعيد البعيد

ويغطس..

في رحم شمس تذوب!

وترنو الجميلة

نحو السماء وتشدو:

وأين هو الحب ما شكله

بأي سماء يطير

هل الحب هو مشاعر خلقها الإنسان وهو يهاجر في دروب الحياة المديدة للكائن البشري، أم هو هبة سماوية لا يستطاع كنهها. هنا يقول الشاعر أمام صديق يقول بالمعنى، إن الحب مخلوق إنساني مؤلَّه سقيناه دمع الجروح، وذبحنا القلوب بمعبده، قرابين نرجو رضاه لعله يحنو علينا. ويساءل لما إذا جاء يشعل في صدرنا فوانيس من رغبة وشموع بكاء وكيف. هل الحب الإنساني بكاء كما صورته الحكايات العربية منذ قيس وليلى، هل هو عذاب وفراق واشتياق، أم هو في حقيقته ذوب وبوح وقرب وقبل، هل هو المشاعر التابعة أم هو الاحتضان الأقصى الذي يبدد وحدة الكائن ويدخله رقصاً من خلال جسدين يذوبان في العناق.

رآني صديق بمقهى

أقطر ماء الأغاني

ومن فنجاني

أعب القصائد قال:

وما الحب إلا إله

خلقناه نحن

ونحن سقيناه دمع الجروح

ذبحنا القلوب بمعبده، قرابين

نرجو رضاه

لعله يحنو علينا

ويسأل ما الحب ما شكله

بأي سماء يطير

وكيف إذا جاء

يشعل في صدرنا

فوانيس من رغبة

وشموع بكاء!

يبدأ الشاعر مرة أخرى في لهيب السؤال الأول الذي يطلقه في القصيدة عن ماهية الحب وشكله وبأي سماء يطير، الشكل لابد أن يتموضع في المكان، ويسري عليه الزمن المتسرب أبداً نحو المستقبل. لكن الحب فعل ساحر يدوزن طعم النبيذ عبر الزمان ويعزف سكراً خفيفاً ليجعلنا ملوكاً، ويهدي عيون حبيباتنا نجمتين وغمازتين لضحكاتهن. ولكن ذلك لا يفيد في إطفاء السؤال الأول عن الحب ليعاود السؤال، ثم يتساءل في داخل السؤال عن فعله كيف يعيد الحياة لنبض الحياة.

وأسأل ما الحب ما شكله

بأي سماء يطير

وكيف بضربة حلم

يدوزن طعم النبيذ

ويعزف سكراً خفيفاً

فيجعل منا ملوكاً

ويهدي.. عيون حبيباتنا نجمتين

وغمازتين.. لضحكاتهن

وأسأل ما الحب ما شكله

بأي سماء يطير

وكيف يعيد الحياة

لنبض الحياة

لا يمكن للقصيدة أن تكتمل دون أن يحاول الشاعر إجابة السؤال الكامن في ذهابه نحو مغايرة الشعرية العربية ليس في إيقاعها بل هو يلتزم ذلك الإيقاع الذي يذهب بالقصيدة نحو تفاعل مزدوج بين الإيقاع والمعنى ليهب القصيدة شكلها المتكامل. وتتم الإجابة عن السؤال في تأمل صوفي يكشف عن دواخل الذات التي تتجلى في التأمل العميق في مراياها الداخلية، والكهف مكان التأمل وضحى التعبد وأنوار نزول الوحي ونوم الفرار. الكهف تأمل الفلاسفة للحقيقة والخروج بها نحو العلن، عندما يغشاك نور يتكلم عندها وحي الشعر أو ما يشبهه لتنكشف الحقيقة وينتفي السؤال، ولكنه سؤال مغامر يولد ما بعد القصيدة في هذا الذهاب نحو التأويل.

بكهف تجل

غشاني نور وقال:

وما الحب إلا لهاث

غريبين يلتصقان

ولا يفقهان من الحب شيئاً

ولا يسألان: وما الحب ما شكله بأي سماء يطير!

العدد 4011 - الجمعة 30 أغسطس 2013م الموافق 23 شوال 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً