قابس (تونس) - آي بي إس
تسير حكاية «قابس» وصناعة الفوسفات المحلية وفقاً لحبكة مألوفة جداً: فقابس هي بلدة متخلفة التنمية تقع في منطقة صناعية وتفتخر بصناعة رئيسية مربحة مع ارتفاع قيم الناتج والصادرات. لكن الأهالي المحليين والمناطق المحيطة بهم يعانون من مستويات من الأمراض والتردي البيئي مثيرة للقلق.
لم يعد الأهالي المحليون صامتين كما كانوا من قبل، فقد عقدوا مهرجاناً للاحتفال باليوم العالمي للبيئة في 5 يونيو/ حزيران، واتخذوا إجراءات أخرى مثل الاحتجاج واستخدام كتابات مكافحة التلوث على الجدران بهدف زيادة الوعي حول الوضع في «قابس».
وتعتبر قابس سادس أكبر مدينة ومركزاً صناعياً رئيسياً في جنوب تونس، وهي موقع مصنع الفوسفات في الدولة. والمصنع الذي تديره مجموعة «شيميك التونسية» يتولى معالجة الفوسفات من قفصة والمناطق الداخلية من البلاد، وتحويله إلى فوسفور، ومن ثم تصديره إلى جميع أنحاء العالم.
ويعود القطاع الصناعي في قابس إلى منتصف القرن العشرين. وبحلول عام 2007 - وبحجم إنتاج سنوي من الفوسفات يصل إلى 8 ملايين طناً - أصبحت تونس تحتل المركز الخامس في العالم في إنتاج الفوسفات.
فيقول مدير فرع قابس لمعهد صحافة الحرب والسلام هيثم نصفي، إنها لصناعة هائلة تصل إلى 30 في المئة من الناتج القومي الإجمالي في تونس. ويوظف المصنع 3000 عاملاً، وعندما تبلغ دورة الإنتاج إلى أقصاها، يمكن أن تصل الأرباح اليومية إلى 11 مليون دينار تونسي، أي ما يقرب من 6.8 مليون دولاراً أميركياً، ولكن بوجود منطقة صناعية واسعة على بعد أقل من كيلومتر واحد من أطراف المدينة، فتأتي أنشطة المصانع بتداعيات وخيمة على كل من الصحة البشرية والحياة الحيوانية.
فقابس تسجل أعلى معدل للإصابة بالسرطان في تونس. وفي الحي الأقرب إلى المصنع، شط السلام، يصيب سرطان الرئة في واحدة من كل 10 أسر. أما معدلات سرطان الكلى فهي أعلى قليلاً، وذلك بنسبة 12 في المئة من الأسر المتضررة. وبالمثل، تسجل هشاشة العظام، وأمراض الحساسية، والإجهاض، أعلى من متوسط المعدلات.
ويقول هيثم نصفي وهو ينقل شكوى شائعة بين أهل قابس... الجميع متعبون، ويرغبون في النوم، ولا نشعر أبداً بأن لدينا ما يكفي من الطاقة. ويضيف أن مجرد القيام برحلة قصيرة إلى بلدة مطماطة السياحية القريبة يؤدي إلى تحسن كبير في القدرات العقلية.
لقد أصبحت واحة شط السلام، التي تقع مباشرة بجوار المنطقة الصناعية والتي كانت تضج بالطيور والحياة الحيوانية، من القفار الصناعية وغير الصالحة للحياة البرية أو لأغراض الترفيه.
كما تعاني الأسماك المحلية أيضاً. فمنذ عام 1965 تم فقدان أكثر من 200 نوع من الأسماك، ما أدى لانخفاض التنوع البيولوجي في منطقة الخليج إلى 15 نوعاً من الأسماك فقط.
والمشكلة أن النظم البيئية الطبيعية المتأصلة التي تضررت الآن لا تتعلق فقط بهذه الواحة، ولكن بكامل خليج قابس. فقد كانت فريدة من نوعها لأن مياه الخليج الدافئة توفر منطقة خاصة لتكاثر شتى الكائنات والأنواع لمنطقة البحر الأبيض المتوسط. ويجدر هنا ذكر الخواضون والطيور المائية، وكذلك شتى النباتات البحرية مثل الأعشاب البحرية.
وفقاً لعالم البيئة صفوان عزوزي، من مواليد قابس، تعتبر واحة شط السلام البحرية الوحيدة من نوعها في العالم. إلا أنه حالياً قد جف أكثر من 400 مصدر من مصادر تغذية المياه العذبة للواحة بسبب الملوثات الكيميائية، وفقدان الموائل الكافية، وأجبر ذلك العديد من الأنواع إما على إيجاد موائل أخرى أو ببساطة التضاؤل من حيث العدد.
ولقد ظلت السلطات حتى الآن صامتة حول قضية التلوث ولم تعترف علناً بوجود المشكلة. ويعتقد معظم سكان قابس أن الحكومة ببساطة لا تريد توفير المال الكافي لتحديثها.
وسيتطلب الإصلاح الأكثر أهمية إنهاء التفريغ الواسع النطاق لجبس الفوسفات، وهو منتج من دورة الإنتاج. وتؤكد منظمة SOS للبيئة في قابس أن الكمية اليومية التي تتسرب إلى البحر من جبس الفوسفات تصل إلى 28,720 طناً.
وجبس الفوسفات هو نتيجة مشعة لخام الفوسفات مع حامض الكبريتيك، ويتناثر في جميع أنحاء الأرض المؤدية من المصنع إلى البحر، والموجات التي تصل للشاطئ الفارغ تتكون من الماء الملوث باللون الأسود.
وقد لاحظ المواطنون في قابس عدم اتخاذ أي خطوات ملموسة نحو إصلاح المصنع، لذلك فقد أخذ النشاط البيئي آفاقاً جديدة.
وتفتخر المدينة الآن بـ 23 جمعية أهلية تعمل على طرح قضية التلوث في صدارة الخطاب العام. والنتائج تؤتي ثمارها. فالكتابات على الجدران تزين واجهات العديد من المباني بكلمات مثل «أوقفوا التلوث»، بالإضافة للاحتجاجات غير العنيفة مثل حواجز الطرق التي يستخدمها النشطاء في كثير من الأحيان.
وقادت جمعية حماية واحة شط السلام جهود التوعية الأخيرة، بما في ذلك مهرجان 5 يونيو في يوم البيئة العالمي. وقد سار أكثر من 1000 مشارك عبر الشوارع إلى موقع المهرجان، وهم يرددون، «نريد أن نعيش». وقام أكثر السكان المحليين بزيارة مواقع تزويد المعلومات أو استمعوا إلى موسيقى الراب والهيب هوب التي تدعو لمكافحة التلوث.
ولاحظ منظم المهرجان نادر شكيوا أن العام الماضي لم يشهد سوى جزء بسيط من مستوى الاهتمام الحالي. وقام المنظمون بتعبئة شهر يونيو بالعديد من الفعاليات، مثل توزيع منشورات في مراكز التسوق أو عقد مسابقات الكتابة على الجدران التي تدعو لمكافحة التلوث. فكانت إمكانية انخراط المواطنين بنشاط مع هذه المسألة هي إحدى فوائد العيش في تونس ما بعد الثورة.
ويقول هيثم نصفي: «خلال حكم زين العابدين بن علي، كان الناس يشتكون وراء الأبواب المغلقة، أما الآن فقد تم كسر هذه المحرمات، ويمكن للمواطنين مناقشة المشاكل بصراحة ووضوح، كما أنهم أصبحوا أيضاً بحكم الأمر الواقع دعاة لحماية البيئة».
أما شيكوا فيقول: «قبل الثورة، لم يكن أي تصرف يتسم بالاحتجاج وارداً. فكان مصيرك في هذه الحالة هو الذهاب مباشرة إلى السجن».
وقد عملت منظمة SOS للبيئة في قابس بشكل غير علني لعدة سنوات، لكنهم سعداء الآن بتوفر إمكانيات جديدة للاحتجاج.
ويقول عضو في المنظمة، طلب عدم ذكر اسمه، «إننا نعلق الكثير من آمالنا على الجيل الجديد، الذي لديه مصلحة أكبر ويستحق أن يحيا في ظروف معيشية صحية، دون الحاجة إلى الفرار من المدينة».
كذلك دينا عبدالواحد، التي ولدت في قابس لكنها تعيش حالياً في تونس كمصممة ديكور داخلي، لديها الآمال نفسها. وتقول إنه في حين أن النشطاء يحرزون تقدماً ببطء ولكن بثبات لتغيير الأمور... إلا أنه مازال هناك عدم توازن في القوى... فالذين يديرون المصانع وأولئك في الحكومة يتفوقون علينا بما لديهم من الأموال والنفوذ السياسي...
وتختتم دينا حديثها يقولها: «لكني مازلت متفائلة بأن الأمور ستتحسن قريباً، وأننا سنشهد تغييراً حقيقياً».
العدد 4010 - الخميس 29 أغسطس 2013م الموافق 22 شوال 1434هـ