يقول التاريخ إن الأمة عندما تكون في أوج قوتها فلن تكون بحاجة إلى تلفيق التهم لفئة من أبنائها، ولكنها تحتاج إلى ذلك في مرحلة الضعف والتفرق والضياع؛ ففي هذه المرحلة تصبح هناك فجوة كبيرة بين الحاكم الظالم وبين الشعب، وبدلاً من أن يقوم الحاكم بردم هذه الهوة بإصلاح ما أفسده هو أو من كان قبله من الحكام، فإنه يستمر في ممارسة الإفساد. ولكي يضمن سلامته وبقاءه حاكماً فإنه يقوم بتلفيق تهم لكل من يقف في وجهه ناصحاً أو معترضاً، وفي هذه الحالة يختار أسوأ أنواع التهم - بحسب عصره - ثم يطلب من بعض علمائه إضفاء الشرعية على تلك التهم لكي تكتمل الصورة عند عموم الناس، ظناً منه أن المجتمع سيتقبلها فتصبح معاقبة فاعلها مطلباً شعبياً وشرعياً يقوم به الحاكم استجابة لأوامر الله وتلبية لمطالب الشعب، وحرصاً على حماية أمن البلاد والعباد!
في العصر العباسي نشأت تهمة «الزندقة»، وهي تعني الإلحاد، فالزنديق هو من يظهر الإيمان ويبطن الكفر، وبسبب هذه التهمة قتل الكثير من الأبرياء، إذ كان يكفي أن يقال إن هذا زنديق لكي يتم قتله والتشهير به ومن دون محاكمة. وبطبيعة الحال فإن الحاكم أو من ينيبه هو الذي يحدّد الشخص المراد اتهامه بالزندقة، تحقيقاً لأغراض سياسية لا علاقة لها بالإسلام! صحيح أن هناك من كان يكفر بالله باطناً ويعلن إسلامه خوفاً من العقوبة، لكن المبالغة في القتل وتوزيع التهم جزافاً لأغراض سياسية كان هو السائد آنذاك.
وفي أيامنا هذه برزت مجموعة من التهم وللأهداف نفسها غالباً، وقُتل بسببها آلاف الناس؛ فالاتهام بالشيوعية كان كافياً لقتل البعض أو سجنه في بعض الدول، فالمجتمع المسلم يستنكر هذا المذهب، ويرى أن صاحبه ملحد ومحارب لله ولرسوله، ولكن الواقع يؤكد أن الشيوعيين العرب ليسوا كذلك دائماً، فكانت هذه التهمة أحياناً تصيب من لا يعرف الشيوعية أصلاً! كما حدث في العراق في العصر الملكي ثم في بعض دول الخليج والسودان، وقد أدت هذه التهمة ببعض أصحابها إلى الموت.
وفي العراق أصبحت تهمة الانتماء لحزب «البعث» من التهم الكبيرة، وقد حوسب على أساسها مجموعة من قادة العراق، كما منعوا من العمل السياسي، وظهرت مقولة «اجتثاث البعث» مع أن معظم العراقيين كانوا ينتسبون لحزب البعث رغم أنوفهم، والقائل باجتثاثهم يعرف ذلك تماماً، لكنها السياسة وحدها هي التي جعلت بعض قادة العراق يتخذون من توجيه هذه التهمة للبعض سلماً يصعدون به على أكتافهم إلى سدة الحكم بينما هم لا يستحقون ذلك! ومن الغرائب أن الذين يحاربون البعثيين في العراق يقفون مع البعثيين في سورية، مع أن المذهب في أصله واحد، لكنها السياسة وأطماعها!
وبرز على ساحتنا الإسلامية والعربية حالياً، ضجيج هائل من فئات ثلاث هي: الإخوان والليبراليون والعلمانيون، فكل فئة تكيل التهم للأخرى؛ فهذه كافرة وتلك خائنة لا تعرف الوطنية وثالثة انغمست في الإلحاد حتى أخمص أقدامها! وكل واحدة من هذه الفئات تستعدي السلطة على الأخرى وتقدّم لها كل المبررات على أن الفتك بها من أقدس الواجبات وأكثرها نفعاً للوطن والدين! وفي هذا الخضم من الحرب الطاحنة يتناسى الجميع كل القيم التي كانوا ينادون بها، فالأهواء هنا مقدمة على المبادئ والقيم الأخلاقية والإنسانية!
ينادي الليبراليون بأهمية نشر قيم الحرية والعدالة وحقوق الإنسان، ويرون أن الديمقراطية هي الطريق لتحقيق هذه القيم، ولكن كثيراً منهم وضعوا هذه المبادئ تحت أقدامهم عندما وجدوا أنها لا تحقق لهم المكاسب التي يتطلعون إليها. وقد رأينا هذا من خلال مواقفهم من أحداث مصر عندما صفّقوا لكبت الحريات وطالبوا بقتل المتظاهرين، وأسبغوا عليهم صفة «الإرهاب»! ومواقفهم هذه ليست حكراً على ما حدث في مصر، لكنها أصبحت سمةً بارزةً على مجمل مواقفهم من الأحداث التي تجري في بلادنا العربية والإسلامية.
أما العلمانيون الذين تقوم مبادئهم على فصل الدين عن الدولة، فلم يجدوا غضاضةً في الوقوف إلى جانب شيخ الأزهر وبابا الكنيسة لإسقاط حاكم منتخب لأن مبادئه لا تتوافق مع مبادئهم.
الإخوان المسلمون وبعض المنتمين إلى تيارات إسلامية أخرى أو غير المنتمين إلى أي تيار إسلامي، غالباً ما يلصقون تهم الكفر والإلحاد والفسق والفجور بالليبراليين، وهذا غير صحيح على إطلاقه، فهؤلاء لا يجمعهم فكر واحد وإنما هم أطياف فكرية متنوعة المشارب، وأنا هنا اتفق مع تركي الحمد - وهو من أبرزهم - في قوله: «فالتيار الليبرالي العربي إنما هو في حقيقته أشتات ومجتمعات أو لنقل: راية مظلة تجمع تحتها التيارات غير الإسلامية».
وأحياناً يحصل خلط بين الليبرالية والعلمانية، لكن التهمة التي توجه إليهم غالباً ما تكون واحدة! ورداً على التهم التي يوجّهها الإسلاميون عموماً لمخالفيهم، فإن الليبراليين ومن شايعهم وصفوهم بالإرهابيين والإخونجية - حتى ولو لم يكونوا كذلك - والصحويين والحركيين، وأصحاب الفكر المنغلق وما شابه ذلك من الصفات، وطالبوا - على اختلاف بينهم - بقتلهم أو سجنهم أو منعهم من ممارسة أي عمل سياسي أو تعليمي وما شابه ذلك من المطالب التي لا تتفق مع أبسط القواعد التي ينادون بها! ونتيجة لذلك رأينا أن مجتمعاتنا بدأت تتمزق، وكل فئة بدأت تتخندق إلى جانب بعضها البعض ضد الفئة الأخرى، وكل يتربص بالآخر وينتظر منه أية زلة، بل ويخترعها، لكي تبدأ عملية الردح والتشهير والمطالبة بالعقاب! والمتتبع لما يجري يرى شواهد كثيرة وربما لو استمر الحال على ما هو عليه فسيكون القادم أسوأ!
وفي ظل هذا التناحر غابت مفردات كنا نرددها طويلاً مثل التسامح والحوار، والقبول بالآخر، والقول إن الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، إلى غير ذلك من الأبجديات التي كانت سائدةً على الشفاه زمناً طويلاً، وعندما احتجنا إليها غابت عن مفاهيمنا وابتعدت عنا كثيراً!
بطبيعة الحال لم أتكلم عن قضايا الإرهاب أو الاحتراب بين السنة والشيعة، وهذه تضاف إلى عوامل الفرقة بين أبناء المجتمع الواحد، ولأنني أدرك أننا نحتاج إلى وقت طويل لكي نستطيع ترميم أوضاعنا - هذا مع صفاء النية واستشعار المخاطر- فإنني أرى أن على المرء ألا يبالى بكل ما يسمع، فقناعاته هي أهم ما يملك ولا يتنافى ذلك مع بحثه عن الأفضل وبالوسائل الحوارية الحضارية وهذا من طبيعة الإنسان العاقل الحر.
إقرأ أيضا لـ "محمد علي الهرفي"العدد 4008 - الثلثاء 27 أغسطس 2013م الموافق 20 شوال 1434هـ
أسئلة لأخينا الكاتب. ........................
هل ما زلت مقتنعا أن أميركا و إسرائيل ومن لف لفيفهم من قوى الغرب والترك والأعراب هم حمائم السلام للشعب السوري المتمسك بقيادته الممانعة والداعمة للحركات الفلسطينية ؟؟؟ وهل يا ترى ما زلت تصدق دموع التماسيح التي ستجازف من أجل إنسان سوريا ادعاء وكذبا ؟؟؟ ومتى صار عدوك يقتل نفسه من أجل أن تعيش بحرية ؟؟؟!! أولم تسمع أن الحقد والحسد يأكل بصاحبه؟؟ أولم تستنشق بعد رائحة الغاز الطبيعي والنفط والهيمنة والامبراطورية ؟ عجيب أمركم
احسنت
شكرا لهذه المقالة التي هي اكثر من رائعة
نحن مجتمعات وشعوب فاشلة تعمل على هامش التاريخ
لذا سهل عمل تفريقها بأمور سخيفة كالطائفية المقيتة....العبئ يقع على حكامها اللذين باعوا أوطانهم لأعداء الأوطان لكي يتشبثوا في مواقعهم... وكذلك على الشعوب أنفسها التي لا تدرك بأن الاختلاف لا يفرق للود قضية...لأن الاختلاف يعزز مبدأ احترام الآخر ويثريه،لتكون نتائجه رؤية الأمور بواقعية أكثر....شريطة أن لا يخون أحدنا آخر بمجرد الاختلاف معه.