شدد الرئيس الأميركي باراك أوباما أمس (الجمعة) على ضرورة أن تقوم «إسرائيل» والدول العربية بـ«خيارات صعبة» لبلوغ السلام، وذلك غداة خطاب تاريخي توجه فيه الخميس من القاهرة إلى العالم الإسلامي. واعتبر أوباما أن إدارته أوجدت «فضاء»، لاستئناف مفاوضات السلام، موضحا أن الولايات المتحدة لا تستطيع إجبار الفرقاء المعنيين على القبول بتسويات تاريخية ضرورية بهدف وضع حد لعقود من النزاعات. وأعرب أوباما عن أمله أن تقيم الدول العربية «تبادلا تجاريا ودبلوماسيا» مع «إسرائيل» في حال اتخذت الدولة العبرية خطوات حاسمة لمصلحة السلام.
وكان الرئيس الأميركي يتحدث إلى صحافيين في دريسدن (شرق ألمانيا) إثر محادثات مع المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل التي زار معها لاحقا معسكر بوشنفالد تكريما لملايين اليهود الذين قضوا إبان النظام النازي. وفي الشأن الإيراني قال أوباما إن الولايات المتحدة مستعدة لحوار جاد مع إيران. إلا أن مسئولا إسرائيليا كبيرا أعرب الخميس عن خيبة أمله من خطاب الرئيس الأميركي في القاهرة بشأن الملف النووي الإيراني.
دريسدن(ألمانيا) - أف ب
واصل الرئيس الأميركي باراك أوباما أمس (الجمعة) حملة الدبلوماسية لإحياء عملية السلام في الشرق الأوسط وحض قبل أن يزور معسكر بوشنفالد في ألمانيا، الدول العربية على القيام بخطوات حيال «إسرائيل».
فغداة خطاب ألقاه في القاهرة وتوجه فيه إلى العالم الإسلامي، دعا أوباما العرب والإسرائيليين إلى القيام «بخيارات صعبة» لبلوغ السلام المستند إلى تعايش بين دولتين، فلسطينية وإسرائيلية.
وقال خلال مؤتمر صحافي مشترك مع المستشارة الألمانية انغيلا ميركل في دريسدن في شرق ألمانيا «أوجدنا فضاء، مناخا لاستئناف المفاوضات».
لكنه تدارك أن الولايات المتحدة لا تستطيع إجبار الفرقاء المعنيين على صنع السلام، بل يمكنها فقط مساعدتهم في تجاوز الخلافات. ودعا الفلسطينيين والعرب إلى القيام بخطوات تجاه «إسرائيل»، موضحا أنه ينتظر من الفلسطينيين أن يضعوا حدا «للتصريحات التي تحض على كره» الدولة العبرية، ويريد أن يكون العرب مستعدين لإقامة «تبادل تجاري ودبلوماسي» مع «إسرائيل» في حال التزمت السلام.
وجدد مطالبة «إسرائيل» بوقف الاستيطان اليهودي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، مذكرا بأن الدولة العبرية سبق أن التزمت هذا الأمر.
وقال أوباما «أقر بأن (رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو) سيواجه صعوبة كبيرة على الصعيد السياسي» لاتخاذ تدابير مماثلة.
وأعلنت ميركل أنه مع أوباما «لدينا فرصة فريدة لإعطاء دفع جديد لعملية المفاوضات هذه»، معتبرة أن «خطاب الأمس شكل بابا مفتوحا على العالم العربي، وينبغي أن يليه تقدم ملموس».
وبعدما دان إنكار وجود المحرقة في القاهرة، عزز الرئيس الأميركي هذا الموقف عبر زيارته مع ميركل معسكر بوشنفالد السابق (200 كلم غرب دريسدن) الذي قضى فيه 56 ألف يهودي إبان الحكم النازي.
من جهة أخرى صرح الرئيس الأميركي أمس أن حكومته لم تطلب «التزامات حازمة» من ألمانيا لتتكفل بمعتقلين سابقين في غوانتنامو.
وكشف أن حل القضايا المتعلقة بغوانتنامو سيستغرق أكثر من بضعة أشهر. وفي الشأن الإيراني قال أوباما إن الولايات المتحدة مستعدة لحوار جاد مع إيران. إلا أن رجل دين إيراني بارز طالب أمس الولايات المتحدة بتغيير سياساتها تجاه «إسرائيل» من أجل تحسين علاقاتها مع إيران. وأضاف أية الله أحمد جنتي في خطبة الجمعة في طهران: «مهما يقل الرئيس الأميركي عن نسيان الماضي وبدء مرحلة جديدة ( من العلاقات مع إيران) فإن الشرط الأول يتمثل في وجوب تغيير السياسة (الأميركية) تجاه إسرائيل».
على صعيد متصل أظهر استطلاع للرأي نشرته صحيفة يديعوت احرونوت أمس (الجمعة) انقسام الناخبين الإسرائيليين بشأن الموافقة على مطلب الرئيس الأميركي بوقف بناء المستوطنات والقبول بإقامة دولة فلسطينية. وفي إجابة عن السؤال هل يجب أن تقبل «إسرائيل» بمطالب أوباما أم ترفضها وتجازف بالتعرض لعقوبات قال 40 في المئة من المشاركين في الاستطلاع إن على «إسرائيل» أن تكون مستعدة للمجازفة بإثارة غضب واشنطن وألا تصغي لدعوة أوباما التي أطلقها من مصر الخميس. وقال 56 في المئة إن على «إسرائيل» أن تقبل بالمطالب الأميركية.
من جهته شكك الزعيم الديني مقتدى الصدر بنوايا الخطاب الذي وجهه أوباما إلى المسلمين من القاهرة، معتبرا أن المطالبة بـ»بداية جديدة» هي «أسلوب جديد لإرضاخ العالم». وقال الصدر في بيان صادر عن مكتبه وزع خلال صلاة الجمعة إن «هذه الخطابات لن تنطلي على الشعوب الإسلامية والعربية لأنها تعلم أن ما تعانيه من بعض حكوماتها الظالمة إنما هو بسبب أميركا ودعمها». وأضاف «ليعلم الجميع أن المقاومة ستستمر والمعارضة ستستمر ولن نصدق أقوالهم إلا بعد انسحابهم من عراقنا الحبيب وأفغانستان المسلمة وسحب دعمه للعدو الإسرائيلي وأنى له هذا».
إلى ذلك انتقدت الحركة الإسلامية في الأردن أمس الخطاب ووصفته بـ»المتناقض»، داعية أوباما إلى «الفعل لا القول». وقال أمين عام حزب جبهة العمل الإسلامي أكبر أحزاب المعارضة الأردنية اسحق الفرحان، إن «أوباما ناقض نفسه عندما تحدث عن التجانس والمساواة العرقية، فهو كان قد أعرب سابقا عن تأييده ليهودية الكيان (إسرائيل)، وهي أكبر فكرة عنصرية في الوجود».
وفي تطور آخر أثارت إشارة الرئيس الأميركي في خطابه بالقاهرة إلى تسامح الإسلام في الأندلس في ظل الخلافة الإسلامية في القرون الوسطى، تساؤلات في الإعلام الاسباني.
وكتبت صحيفة «ال موندو» اليمينية على صفحتها الأولى على موقعها الإلكتروني أن أوباما «ربط بشكل يثير الشك بين الخلافة في قرطبة ومحاكم التفتيش». وكتبت صحيفة «آه بي ثي» اليمينية أن أوباما «خلط بين الأندلس ومحاكم التفتيش». واعتبرت صحيفتا «ال موندو» و»ال باييس» (يسار وسط) على موقعهما الإلكتروني أن التسامح الإسلامي خلال «احتلال الأندلس خرافة» وكذلك «التفاهم بين اليهود والمسيحيين والمسلمين».
قالت منظمة العفو الدولية إن خطاب الرئيس باراك أوباما الذي وعد فيه بفتح صفحة جديدة في السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، تجاهل التجاوزات المستمرة في مجال حقوق الإنسان في مصر حيث ألقى خطابه وفي دول عربية أخرى.
وقالت المنظمة التي تتخذ من نيويورك مقرا لها إن «أوباما فوت فرصة مهمة لانتقاد نظام حال الطوارئ المعمول به في مصر وانتهاك حقوق الإنسان في الجزائر وسورية ومصر ودول أخرى». وأضافت المنظمة أن اختيار أوباما القاهرة لإلقاء خطابه «مثير للجدل لأن النظام في مصر يسكت المعارضين وتنظم فيها انتخابات غير نزيهة ويعتقل معارضون». وقالت إن أوباما «تحدث عن أهمية حرية الرأي لكنه لم ينتقد أعتقال منشقين وصحافيين وأصحاب مدونات في مصر والسعودية وسورية وتونس ودول أخرى».
وتابعت أنه «بدلا من الافتخار بقرار حكومته عدم اللجوء إلى التعذيب كان من الأفضل لو طلب من حكومات المنطقة بما فيها مصر أن تحذو حذوه». وقالت مديرة المنظمة في الشرق الأوسط ساره لي ويتستون «إذا أراد أوباما معالجة أسباب كراهية المسلمين للولايات المتحدة فعليه مواجهة الأنظمة القمعية في المنطقة التي تدعم واشنطن عددا منها وخصوصا البلدان التي زارها».
عبر مسلمون أميركيون عن ارتياحهم وأملهم الكبير إثر الخطاب الذي ألقاه الرئيس الأميركي باراك أوباما الخميس في القاهرة والذي يتباين كليا في نظرهم مع السنوات الثماني التي تميزت بالخطاب المعادي للإسلام في عهد سلفه جورج بوش. فخلال ثماني سنوات لولايتي بوش تحدث البيت الأبيض عن «إرهابيين إسلاميين» و»فاشية إسلامية» مثيرا توترات بين العالم الإسلامي وبقية السكان، في الولايات المتحدة وكذلك في الخارج كما لفت عدد من مسئولي المنظمات الإسلامية. وأعرب كثيرون الخميس عن ارتياحهم لرسالة الرئيس الأميركي الذي دعا بقوة إلى فتح صفحة جديدة في العلاقات بين الولايات المتحدة والمسلمين، في قطيعة مع نهج سلفه الرئيس جورج بوش.
وقال مدير فرع شيكاغو (ايلينوي. شمال) لمجلس العلاقات الأميركية الإسلامية أحمد رحاب «إن هذا الخطاب أكثر وقعا لزعزعة القاعدة من كل ما قاله (الرئيس جورج) بوش».
هل العالم الإسلامي أمام أميركا جديدة أم رئيس جديد للولايات المتحدة؟ خطاب باراك أوباما من القاعة التاريخية في جامعة القاهرة خارق للعادة في توجهاته الثقافية والأخلاقية والإنسانية لأنه فاق مختلف التوقعات بشأن تلك الرسالة التصحيحية التي وعد الناخب الأميركي بها حين كان ينافس خصمه الجمهوري على موقع الرئاسة. فالخطاب شكل علامة فارقة في تاريخ العلاقات بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي لما تضمنه من فقرات أدبية أرسلت إشارات واضحة عن التسامح والتعايش والتعارف والتنوع والاعتراف والتعدد والتقدم والشراكة الإنسانية والمعاشية وما تقتضيه ظروف الحياة من شروط لتقبل الآخر المختلف في عاداته ولغته وتقاليده وأنماط سلوكه.
خطاب أوباما في جانبه الإنساني والثقافي والمعرفي والتاريخي حدد تلك النقاط المشتركة والجاذبة إلى التقاطع والتلاقي والتفاعل وحق المشاركة في التطور والإنتاج والإبداع والتقدم. والخطاب بهذا المعنى لا يمكن إلا أن يلقى الاحترام والتأييد والتقدير والرد عليه بما هو أفضل. وردود الفعل المباشرة التي علقت على الخطاب بعد دقائق من انتهاء أوباما من إلقاء كلمته جاءت في معظمها مؤيدة لمضمونه الخلقي والراقي في تعامله أو رؤيته لدين كان له دوره المميز في إنتاج وتطوير الحضارة الإنسانية. فالردود كانت تشير إلى نوع من الارتياح والاطمئنان والسعادة لكون الكلام جاء من موقع أعلى سلطة في الولايات المتحدة وهو قيل للتأكيد مجددا على أن ما حصل من توترات أصبح من الماضي ولابد من العمل سوية لتجاوزه نحو خير البشرية.
«أميركا ليست في حرب مع الإسلام ولن تكون كذلك أبدا». فهذا الكلام بيان بإعلان الهدنة والمهادنة وتجميد كل دوافع وذرائع تلك الحملة التي أعلنت من غير وجه حق. «إن أميركا والإسلام لا يقصي أحدهما الآخر ولا يحتاجان إلى التنافس». وهذا بيان آخر بالتوجه نحو الاعتراف والتبادل والتساكن في عالم مشترك يتطلب التعاون حتى يواصل تقدمه نحو الازدهار والعدل. «جئت سعيا إلى بداية جديدة بين الولايات المتحدة والمسلمين في العالم». وهذا تأكيد على أن واشنطن تطمح بغلق صفحة وفتح صفحة بقصد تأسيس مواقع انطلاق تسمح بالتفاهم والتلاطف وعدم الانسياق وراء العنف أو عدم الانجرار باتجاه استخدام القوة.
خطاب أوباما في جانبه الثقافي- الإنساني يشتمل على الكثير من العناصر التأسيسية سواء على مستوى اللغة أو على مستوى التخاطب. فاللغة رائعة ومضمون التخاطب راق في رؤيته وسعيه نحو السلام العادل. وبسبب هذا الكلام النموذجي في تطلعه إلى المستقبل من دون قطع مع الماضي تعامل الجمهور العربي- المسلم مع الخطاب بإيجابية لا يمكن إلا أن تكون كذلك. فالعالم الإسلامي (العربي) لا يكره أميركا وليس لديه عقدة نقص في تعامله مع نموذجها الخاص. وشعوب المنطقة لا تحسد أميركا وتغار من نجاحاتها وتريد الاقتصاص منها بسبب أحقاد دفينة وكراهية بيولوجية، كما كان يروج «تيار المحافظين الجدد» للتغطية على استراتيجيته الهجومية ومنهج التقويض وسياسة الفوضى ونشر عدم الاستقرار.
جمهور العالم الإسلامي اعتبر أن خطاب أوباما أعطاه حقه في المجالين التاريخي والثقافي وهو أيضا لا يعارض أن يأخذ الإسلام دوره في المجالين الجغرافي والإنساني. فالشراكة كانت أهم عنوان قدمه أوباما للتعاون على صنع المستقبل من دون عقد وادعاءات ومبالغات.
تواضع أوباما وبساطة أسلوبه وسهولة تعامله اجتمعت كلها لترسل إشارة تؤكد على وجود رئيس جديد للولايات المتحدة. والرئيس الجديد لا يكره ولا يحقد ولا يتشاوف ولا يحتقر وإنما يسعى لتصحيح علاقة تحتاج إلى طرف مقابل حتى ينجح في مهمته التاريخية. بهذا المعنى الثقافي - الإنساني نجح أوباما في كسب قلوب جمهور العالم الإسلامي وهذه خطوة لا تقدر بثمن لأنها قد تشكل نقطة بداية تسمح بإعادة تجسير ما انقطع من علاقات بسبب تلك البؤر العنيفة التي انفجرت وانتشرت على امتداد قوس الأزمات من باكستان وأفغانستان إلى العراق ولبنان وفلسطين.
كسب قلوب العالم الإسلامي يشكل ذاك الجانب النفسي المطلوب ثقافيا وإنسانيا في لحظة انتقالية تتطلب الانفتاح لدفع العلاقات نحو طور جديد لتصحيح رؤية تعرضت لقصف ايديولوجي عنيف على فترات متقطعة من العقود الزمنية. ولكن سياسة كسب القلوب تحتاج أيضا إلى توضيح ملابسات تعرضت لها العلاقات على مختلف المستويات. وتوضيح هذا الجانب يؤدي إلى كسب العقول في اعتبار أن المطلوب الآن تصحيح أزمات راهنة تحتاج إلى احتواء ومعالجة حتى يمكن أن تتجاوزها المنطقة.
الجانب السياسي في خطاب أوباما كان أقل من المطلوب قياسا بتلك الرؤية الحضارية التي تعاطى من خلالها مع الحضارة الإسلامية ودورها التاريخي في صنع التقدم الإنساني. فالمطلوب كما يبدو أكبر من قدرة رئيس جديد للولايات المتحدة على تقديمه. وهذا الجانب الخفي من الصورة حاول أوباما مرارا توضيحه حين أشار إلى صعوبات وعقبات وثغرات وأكد حاجته إلى التعاون لتجاوز تلك الحواجز من دون إفراط في التوقعات. فالرئيس الجديد في خطابه التاريخي أبدى استعداده الشخصي للعمل على كسر الكثير من «المقدسات» وتجاوز بعض تلك «المحرمات» لدفع المنطقة نحو الاستقرار الأمني والتنمية المستدامة... ولكن هذا الفعل (الحلم) بحاجة إلى طرف مقابل يمتلك تلك الجرأة التي تسمح له بكسر الحواجز النفسية والتقدم نحو صوغ رؤية متطورة تتناسب مع ظروف الواقع وإمكانات التغيير من دون مبالغة في التوقعات.
ضمن هذه الرؤية الطموحة سياسيا خاطب أوباما الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني للتقدم باتجاه الاعتراف بالحق المتبادل في الوجود والدولتين. رئيس الولايات المتحدة الجديد كان واضحا في خطابه من جانبه السياسي. فهو غمز ونبه من صعوبات تكبل تحركه الميداني وتمنع عنه التقدم بسرعة نحو إعادة هيكلة رؤية تتحكم بها الكثير من القناعات الايديولوجية والمعطيات المصلحية. وبالتالي فهو يطالب بالتفهم وربما المساعدة على تسهيل الخطوات وتوضيح ملابسات المشهد الواقعي حتى يستطيع أن يقوم بمهمته مع الطرف الآخر من الضفة.
الجانب السياسي من خطاب أوباما أوضح معالم غير مرئية في علاقات ملتبسة. فالرئيس الجديد للولايات المتحدة لا يعني بالضرورة أن أميركا جديدة تشكلت على مسرح التاريخ. والتغيير الذي حصل على قمة الهرم لا يؤشر أيضا إلى تغيير مشابه ومعادل قد حصل في قاعدة الهرم.
بين القمة والقاعدة هناك قنوات رأسية تقطعها أفقيا لوبيات ومصالح تمنع حصول ذاك التطابق الطموح بين الجانب الثقافي- الإنساني من الخطاب والجانب السياسي. فالتطابق يحتاج إلى تواصل ويتطلب منهجية عملية تستطيع نقل الحقوق من فكرة متداولة إلى واقع ملموس. وهذا الأمر لا يمكن تحقيقه من دون وجود طرف مقابل يمتلك الوعي وتلك الشجاعة ويعرف التعقيدات التي تؤخر التوصل إلى حل ثنائي يرضي الطرفين في فلسطين.
الجانب الإسلامي في خطاب أوباما فاق التوقعات واشتمل على نص أدبي متقدم في فقراته الثقافية والإنسانية. وهذا الجانب المتقدم افتقده خطاب أوباما حين انتقل إلى مخاطبة الجمهور في الجانب السياسي (الفلسطيني) والمشكلات الراهنة. والضعف الذي أشار إليه يحتاج فعلا إلى عقول قادرة على السيطرة على القلوب وتطويع المصالح حتى تتموضع مع وقائع لا يمكن التغلب عليها بسهولة.
العالم الإسلامي إذا أمام رئيس جديد للولايات المتحدة... أما أميركا الجديدة فهي تتطلب مشاركة دولية للتوصل إلى إنتاجها. ومثل هذه المهمة التاريخية تحتاج إلى التوسط في رؤية الأمور وإلا فإن العالم سيدخل من جديد في طور آخر من علاقات العنف والانزلاق مجددا إلى سياسة الإفراط في استخدام القوة.
خطاب أوباما التاريخي قد وصل في شقيه الإنساني (القلوب) والسياسي (العقول). هناك من فهمه في جانبيه واقتنع بالرسالة المشتركة، وهناك من اكتفى بقراءة جانب وترك الآخر... وهذه عادة أصحاب الرؤوس الحامية.
لقد استمعت بإمعان لخطاب الرئيس الأميركي الموجه للعالم الإسلامي من جامعة القاهرة وقد لفت نظري فيه حقائق ثلاث:
الأولى: لمست صدق الرجل في تعبيره عما يفكر، وإن كل كلمة تفوه بها كان يعنيها تماما. وهذا بخلاف كثير من القادة الأميركيين أو الأوروبيين أو من دولنا العربية والإسلامية، ولهذا عبّر القرآن الكريم عن ذلك بنوع من اللوم والعتاب لأمثالنا بقوله «لم تقولون ما لا تفعلون. كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون» (الصف: 2-3).
الثانية: إنه كان صريحا وواضحا في تناوله للقضايا التي تهمّ العرب والمسلمين داعيا إليهم بالتفكير بعقلانية، وبلغة السياسة الواقعية، فمعاناة الفلسطينيين تحت الاحتلال لا تبرر قتل الأبرياء، وأعمال القمع الإسرائيلية لا تبرر الرد بنفس المكيال خاصة إذا كانت الظروف الموضوعية لا تبرر ذلك ولا تسمح به، وأعمال العنف ليست هي التي تحرر الشعوب من الاحتلال ولا حتى من الحكم الاستبدادي الظالم كما حدث مع السود في أميركا أو غيرهم.
الثالثة: إن لغة الخطاب ومعانيه كانت متوازنة في توجيه النقد للأطراف كافة العرب و «إسرائيل» والفلسطينيين، الاستعمار وآثاره، الاحتلال وقمعه، العدوان وغزو العراق مقارنة بالهجوم على أفغانستان. حقوق الإنسان والديمقراطية مقارنة بفرضها من الخارج، وهكذا مفاهيم متداخلة وأحيانا متعارضة وينبغي إجراء الموازنات الدقيقة.
وفي تناوله للقضايا السبع التي جاءت في خطابه نجد أن أسلوبه اتسم بعمق التحليل وصدق الرؤية والتعبير عن الأمل سواء بالنسبة إلى قضايا التنمية أو الديمقراطية أو خلق عالم خالٍ من التسلح النووي وتكدس السلاح.
ولكن المتشككين والمرجفين لن يروقهم ذلك سواء من العرب أو المسلمين أو «إسرائيل» بل وحتى من بين الأميركيين المحافظين الجدد الذين اتهموه بأنه مسلم مقنع، وأنه شيوعي مقنع، بل وبعض كتّابنا العرب صوّره في مثاليته بأنه غورباتشوف الذي جاء ليفكك الامبراطورية الأميركية ويدمر الولايات المتحدة كما فعل غورباتشوف مع الاتحاد السوفياتي.
والمرجفون والمتشككون من العرب والمسلمين يقولون ما أكثر ما سمعنا هذا الكلام الجميل المعسول، والمهم هو الأفعال وليس الأقوال. ويرون أنه لن يستطيع أن يحقق كل ما عبّر عنه من أفكار وطموحات؛ فالولايات المتحدة بها قوى ومؤسسات أقوى من الرئيس، و «إسرائيل» لن ترضى عنه، وستحرك اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة ضده. وأنا أتفق مع ذلك، بل أضيف أن «إسرائيل» ستحرك عملاءها من الفلسطينيين للقيام بأعمال تفجير بأماكن معينة في «إسرائيل»، حتى تثيره وتثير أعداء العرب ضد أوباما وتظهر أن تصوراته خاطئة، وأن العرب لا يريدون السلام ولا يستحقونه وعملاء «إسرائيل» بين الفلسطينيين كثر، وخاصة من يبدون التطرف والتشدد، إنهم من العملاء المقنعين لأنهم يخدمون هدف «إسرائيل» وغايتها في رفض السلام والتوسع والسيطرة والاستيلاء على الأراضي.
ولكن السؤال المطروح: وماذا بعد؟
في تقديري أن أوباما قد ألقى الأفكار التي لديه، وهي أفكار عاقلة ومعتدلة ومتوازنة وصريحة، وأنه نجح بامتياز في الدرس الأول لكسب قلوب المسلمين وبعض عقولهم. ولكن المشكلة ذات أبعاد ثلاثة:
أولها الفكر وما أكثر ما لدينا ولدى الآخرين من أفكار.
الثاني: العمل، أي السعي للتنفيذ لهذه الأفكار.
الثالث: متابعة الأمور وإعادة تقييمها.
وهذه الأبعاد الثلاثة في حاجة إلى مجموعة من الملاحظات العامة والتي نذكر منها:
الملاحظة الأولى: إنه تحدث عن حضارة الإسلام وعظمة الإسلام ولكنه لم يشر إلى تراجع الإسلام كحضارة وكفكر وأنه تحول الآن إلى شعائر وطقوس شكلية. وبالتأكيد هو يعرف ذلك ولكنه تحاشاه لأن هذا ليس مهمته؛ فهو زعيم سياسي وليس زعيما دينيا، وهو في الوقت نفسه لا يرى في أن يقدم وعظا للآخرين، وإنما ذكّر الجميع بتاريخ الإسلام وحضارته ومساهماته في تطور البشرية. ومن ثم فإن هذا القول لذوي الألباب يعني استيقظوا أيها النيام من غفلتكم، وهبّوا من سباتكم، ونقّبوا في تاريخكم لتعلموا أن الإسلام وحضارته، بناها الإيمان والعلم، والاثنان صنوان؛ فالإيمان بلا علم لا مساهمة له في الحضارة ويتحول إلى مسألة تأملات روحانية تخص الفرد وليس المجتمع أو الإنسانية، والعلم بلا إيمان مثل السلاح بلا أداة توجيه، وبلا يد تقبض على الزناد وبلا أهداف.
الملاحظة الثانية: إن أوباما كما عبّر بأن الديمقراطية لا تفرض من الخارج فهو ينقل في الوقت نفسه أن الحلول لا تفرض من الخارج، وأن من يتوقعون أن أميركا بيدها عصا سحرية لحل قضية فلسطين، في حين أن الفلسطينيين يتقاتلون ويتبادلون الاتهامات فيما بينهم غير عابئين بقضيتهم، فلا يمكن أن يحلها لهم أوباما ولا أي زعيم مهما بلغت قدرته، أو حسنت نيته. وإن الحل لابد أن يكون واقعيا فمن يعيش في أوهام إزالة «إسرائيل» أو تفكيك المستوطنات لابد أن يفيق على الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي كمن يحلم بعودة لواء الاسكندرونة أو غيرها من الأراضي التي ضاعت أو حتى عودة الأندلس التي عاش فيها العرب والمسلمون ثمانية قرون وفي غمضة عين نتيجة حروب ملوك الطوائف وتآمرهم على بعضهم لمكاسب ذاتية وشخصية، ضاع الكل مع الجميع، وأخشى إذا استمر وضع الفلسطينيين أن يتم اقتطاع أو الاستيلاء الكامل على أراضي الضفة وغزة تنفجر ولا عاقبة ولا عزاء لحماس أو فتح. والمبدأ السياسي أن القوة تفرض الحق وليس العكس خاصة إذا كان أصحاب الحق يتنازعون فيما بينهم فتفشل قوتهم وتذهب ريحهم ويتحول الأمر إلى غيرهم حتى وإن كانوا أصحاب باطل، وكم من الحقوق ضاعت عبر التاريخ.
الملاحظة الثالثة: وقد قيلت بأدب بالغ للقادة العرب الذين ينهبون ثروات شعوبهم وينشرون الفساد في بلادهم وينتهكون الحرمات ولا يحترمون حقوق الإنسان وآدميته، وقد قال لهم أوباما بأسلوب ضمني وإن كان واضح الدلالة، بأن القيم الإنسانية واحدة، واحترام حقوق الأنسان واجب، واحترام المرأة وإعطاؤها حقوقها كافة ضرورة، وربط بين ذلك كله وبين التنمية والتطور الاقتصادي لصالح المجتمع وليس لصالح نخبة أو فئة صغيرة.
الملاحظة الرابعة: إنه لم يتردد في الإشارة إلى حقوق الأقليات سواء الموارنة أو الأقباط ولم يتردد في الإشارة إلى خلافات السنة والشيعة. وهو أراد بذلك أن يؤكد على مبدأ المواطنة المتساوية ويدق ناقوس الاستيقاظ للغافلين الذين يسعون للسيطرة على الأوطان عبر شعارات الهيمنة والسيطرة الايديولوجية والشعارات الديماجوجية.
الملاحظة الخامسة: كان حازما في رده على المرجفين بشأنه ممن قالوا إنه مسلم فأعلن صراحة أنه مسيحي سواء كان هؤلاء من الأميركيين لتشويه سمعته أو من العرب الواهمين الذين يتصورونه المخلّص القادم. ثم كان متوازنا في استشهاده من القرآن الكريم ومن الإنجيل ومن التملود.
الآن الدور على شعوبنا العربية وقادتنا والنخب السياسية والمثقفين للقيام بواجبهم نحو أنفسهم وانتهاز الفرصة التي لا يتوقع أن تتكرر ثانية.
في خطاب تفصيلي طويل، وغير ممل، خاطب الرئيس الأميركي باراك أوباما العالم الإسلامي. ومن يقرأ الخطاب بعناية فائقة وتركيز دقيق، سيكتشف أن أوباما أراد أن يعلن من القاهرة، عوضا عن واشنطن، أو أية عاصمة أخرى، عن سياسة أميركا الخارجية في المرحلة المقبلة مُركّزا على مسألتين:
1. اعتراف واضح وصريح بالخطأ الاستراتيجي الذي ارتكبته الإدارات الأميركية السابقة، وتحديدا منذ سقوط الكتلة السوفياتية، والمرتكز على «الرعونة الأميركية» القائمة على الاستفراد بالقرار العالمي والإصرار على إرغام الجميع برؤية العالم من خلال النظارة الأميركية، والتي جاءت إدارة جورج بوش السابقة، كي تعزز من سلبياته بدلا من تقليصها، الأمر الذي ولّد حالتي كره وامتعاض عالميتين من سياسات الولايات المتحدة.
2. تمسك أميركا بسياسة التغيير الإيجابي، ليس على الصعيد الداخلي فحسب، وإنما على الصعيد الخارجي أيضا. هذا التغيير الخالي من أي توجه متطرف تجاه أية قضية عالمية شائكة، من مستوى الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، أو العلاقات الأميركية مع الكتلة الإسلامية... هذا التغيير الجذري في السياسة الأميركية، سيحاول أوباما أن ينفذه بشكل تدريجي، كي لا يستفز، بشكل غير مبرر، كل القوى الداخلية والخارجية المحافظة، والمناهضة للتغيير، أو تلك التي من الطبيعي أن يمسَّ التغيير الكثير من مصالحها السياسية والاقتصادية على حد سواء.
وإنْ كان لأيِّ مراقب سياسي أن يضع عنوانا لذلك الخطاب، فلربما كان «تسامح الشراكة العالمي غير المستثني للكيانات السياسية الصغيرة» هو أقرب العناوين القادرة على إلقاء المزيد من الأضواء على لُبِّ ما جاء في ذلك الخطاب. ولربما تساءل المواطن البحريني، هل هناك خانة للبحرين، بحجمها الصغير، وعدد سكانها المتواضع، وإمكاناتها الاقتصادية المحدودة في خطاب أوباما؟ والرد على ذلك السؤال إيجابي، إذا ما ولجت البحرين: حكومة، ومؤسسات مجتمع مدني، وقطاعا خاصا، ذلك الخطاب من تلك الطاقة الصغيرة المشرعة أمامها. تملؤنا الثقة في الذهاب إلى ذلك، رغم كل التحديات التي تكتنفه، ثلاث خصائص استراتيجية تتمتع بها البحرين:
1. العلاقات التاريخية العسكرية بين البحرين والولايات المتحدة، والتي تعود إلى نهايات الحرب العالمية الثانية، وهي اليوم من أهم مراكز التواجد العسكري الإميركي في الشرق الأوسط، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار تلك التسهيلات العسكرية المتوافرة في ميناء سلمان، والتي تعززها تلك التي يقدمها مطار المحرق، سوية مع ما هو قائم في قاعدة الشيخ عيسى الجوية. أما الأهم من ذلك كله فهي قاعدة الجفير العسكرية والتي ينظر لها الأميركان كواحدة من أهم القواعد العسكرية في الخليج، فهي تضم مركز قيادة الأسطول الخامس الأميركي، ومركز قيادة القوات الخاصة. وينتشر على أرض البحرين، وفقا لبعض المصادر، ما بين 860 و1200 عسكري. ليس المقصود هنا تعزيز الوجود العسكري الأميركي في البحرين، بما من شأنه المَسّ بسيادة البحرين واستقلاليتها، بقدر ما هو تعزيز العلاقات البحرينية - الأميركية، كما تؤطرها قوانين ومعاهدات العلاقات الدولية، وبما يعود من الفائدة على الدولتين.
2. المركز الاستراتيجي المالي والاقتصادي؛ فالبحرين في قلب المنطقة النفطية بما يعنيه ذلك من ثقل على مستوى تزويد العالم بالطاقة من جهة، وحجم السيولة النقدية المتوافرة لدول هذه المنطقة من جهة ثانية. الأهم من ذلك كله هو تميُّز البحرين، دون سائر دول المنطقة، بما فيها دبي، بقدرتها على مراقبة حركة تدفق الأموال من وإلى الأسواق المالية العالمية من خلال ما طورته من أنظمة وقوانين ساعدت واشنطن كثيرا، خلال الفترة التي أعقبت هجمات سبتمبر/ أيلول 2001 على الولايات المتحدة، وخاصة إذا أخذ في الاعتبار كون البحرين المركز الدولي للمصارف والمؤسسات المالية الإسلامية. ويشهد الكثير من المؤسسات المالية العالمية بكفاءة المصرف المركزي البحريني في تحركه بشكل فعال، وحسب اعتراف السلطات الأميركية، لوقف تدفق الدعم المالي للإرهاب عبر النظام المصرفي البحريني. ومرة أخرى، ليس المقصود تحويل البحرين إلى شرطي بقدر ما هو القيام بدورها، ضمن متطلبات حماية النظام المالي العالمي، كأحد صمامات أمان التحويلات المالية في الأسواق العالمية.
3. أسبقية البحرين، وهي الدولة الصغيرة، في توقيع اتفاقية التجارة الحرة مع الولايات المتحدة، وهو أمر لم تجيّره البحرين، حتى يومنا هذا، في تعزيز مواقعها في سلم العلاقات الأميركية الدولية الخارجية، ولربما آن الأوان اليوم، وفي هذه المرحلة المبكرة من حياة الإدارة الأميركية الجديدة كي تلقي البحرين المزيد من الأضواء على تلك الأسبقية، ودورها في فتح الباب أمام الولايات المتحدة لنسج علاقات متطورة، في نطاق تلك الاتفاقية مع دول المنطقة، مأخوذا في عين الاعتبار تلك الفقرات ذات العلاقة بالتوجه الاقتصادي العالمي الذي ستأخذ به الولايات المتحدة في السنوات الأربع المقبلة على أقل تقدير.
هذه العوامل الثلاثة، تتطلب تضافر جهود كل مؤسسات المجتمع البحريني: الدولة، مؤسسات المجتمع المدني، القطاع الخاص، كي تضع برنامجا عمليا محددا من أجل نقل ما جاء في خطاب أوباما، وذي العلاقة بالمميزات البحرينية، من مستوى الخطاب النظري العام، والمناشدة السياسية، إلى درجة البرامج العملية المشتركة. فمن غير الصحيح، ولا المبرر، أن تنتظر مؤسسات المجتمع المدني، أو أن يتراخى القطاع الخاص، محكومين بذهنية اتكالية غير مجدية تقوم على أن مثل هذه المهمة هي من صلب اختصاصات الدولة، فالبحرين ملك الجميع، ومسئولية الدولة لا تشمل كل المسئوليات.
يد أوباما ممدوة لكثير من الدول الإسلامية، فلماذا لا تكون يد مملكة البحرين أولى الأيادي المستجيبة؟
مجدَّدا يدخل لبنان في عمق الحسابات الصهيونية مع كونه لم يخرج منها، وخصوصا منذ أصبح نقطة تحوُّل مركزية في الصراع مع العدو... ولكنه في هذه الأيام يطل على مرحلة جديدة، تحاول المناورات الإسرائيلية من جهة، والضغوط الدولية من جهة ثانية، أن ترسم معالمها، لتوحي لمحور الممانعة وقوى المقاومة بأنه من المبكر المباشرة بالاحتفال بدخول لبنان والمنطقة في مرحلة الخلاص من مشروع الهيمنة والاحتلال.
ومع أننا ندرك بأن المناورات الصهيونية لا تستهدف لبنان فحسب، بل هي موجَّهة للمنطقة كلها، وربما يريد العدو من خلالها أن يبعث برسالة إلى العالم كله، بأنه سيبقى كيان الحرب الذي لا يكفّ عن صناعة القوة في الداخل لتهديد الآخرين في الخارج، والذي يعلن في شكل مباشر أو غير مباشر عن رفض المبادرات التي تطرح تجميد الاستيطان، إلا أننا نعرف أيضا أن لبنان، الذي هزم العدو في أكثر من مناسبة وموقعة، يبقى على لائحة الاستهداف الأولى من قِبَل العدوّ، الذي يعلن وزير حربه، ومن الأمم المتحدة، أنه سيتخذ الموقف المحدد من لبنان بعد معرفة نتائج الانتخابات النيابية؟!
ولعل من اللافت أن العدو الذي يهدد اللبنانيين ويتوعدهم، وخصوصا في الوقت الذي تنكشف شبكاته التجسسية الواحدة تلو الأخرى، يفسح في المجال واسعا لمستوطنيه للاعتداء على الفلسطينيين باغتيال بعضهم، وبحرق بساتينهم، وقطع أشجار الزيتون، وإطلاق النار على كل من يتصدى لاعتداءاتهم، في وقت تقوم قوات السلطة الفلسطينية بتنفيذ المهمة التي كان العدو ينفّذها بنفسه في ملاحقة المقاومين واغتيالهم، تحت عنوان «الحفاظ على القانون»!! ولعلَّ الغريب العجيب في هذه المعادلة أن الرئيس الفلسطيني، الذي رفض خيار المقاومة واستخدام السلاح ضد العدوّ، لا يجد غضاضة في استخدامه ضد المجاهدين وضد أهله وإخوته، وهو يتحدث عن «الضرب بيد من حديد»، وكأن هذه اليد لا تتحرك إلا في مواجهة المقاومة وحماية الأمن الإسرائيلي؟!
إننا نريد للفلسطينيين أن يعملوا على إنتاج وحدتهم التي تعرّضت لكثير من التصدّعات والاختراقات، ونريد للسلطة الفلسطينية أن تكفَّ عن القيام بالدور الذي تحسب أنه سيجلب لها عاطفة الإدارة الأميركية والإدارات الغربية بمجرد أن تتصدى لطموحات شعبها، وخيارات مواطنيها، لأنه لا بقاء لسلطة تخسر أهلها وشعبها، حتى وإنْ ربحت رضا العالم... وقد جرَّبت هذه السلطة كل أساليب التودد مع العدو ومع الولايات المتحدة الأميركية، منذ اتفاق أوسلو إلى الآن، ولم تحصد إلا المزيد من الخيبة والخسران وتقطيع الوقت لتمرير المزيد من الاستيطان والتهويد والقتل، وحتى حروب الإبادة المتواصلة.
أما الرئيس الأميركي الذي يحطُّ رحاله في العالم العربي والإسلامي، من خلال المنابر السياسية أو الدينية، على العكس من سلفه الذي زحف إلى المنطقة عبر الدبابات والطائرات... فقد لاحظنا أنه يدخل إلى بلادنا بلغة جديدة، ولكن اللغة الجديدة وحدها لا توحي أن ثمة تحوُّلا في السياسة، لأننا استمعنا إلى «أوباما» منذ مباشرة مهمته في البيت الأبيض، فلاحظنا أن كل كلمة إطراء صدرت منه تجاه العرب والمسلمين، أو تجاه الإسلام، قابلها التزام «لا يتزعزع» بالكيان الصهيوني.
إننا نقول للرئيس الأميركي بأن عليه أن يستمع إلى نبض الشارع العربي والإسلامي، ولا يكتفي بتدوين الملاحظات من خلال لقاءاته مع المسئولين العرب والمسلمين، وندعوه لمزيد من الجرأة ليطالب كيان العدو بالاعتراف بالشعب الفلسطيني ووقف إرهابه وعنفه ضد هذا الشعب، لأن معاناة الفلسطينيين التي يتحدث عنها أوباما بدأت مع الاحتلال الإسرائيلي، ولا يمكن للعرب والمسلمين أن يتفهّموا الإصرار على عدم ذكر هذا الاحتلال الذي يمثل المأساة والجريمة للفلسطينيين، والكارثة للمنطقة، والتهديد المستمر للأمن العالمي، وخصوصا أنه احتلال استيطاني ذو أنياب نووية كيميائية، ويحمل عقيدة إقصائية تجاه الآخرين.
وفي موازاة ذلك، نطل على الوضع في المنطقة، لنرى عملا مستمرا للإيقاع بين المسلمين، من خلال السعي لإحداث فتنة بين السنّة والشيعة، والتي حاول البعض أن يحرّك خيوطها في إيران هذه المرة، وخصوصا في منطقة زاهدان، بتفجير وحشي استهدف المصلِّين أُريد له أن يجتذب رد فعل معاكس، لتنطلق شرارة جديدة من شرارات الفتنة المذهبية في المنطقة، ولكنها استهدفت هذه المرة البلد الذي انفتح على قضايا العالم الإسلامي، وعَمِلَ مؤسس جمهوريته الإسلامية الإمام الخميني (قده)، الذي نعيش في هذه الأيام ذكرى وفاته، على احتضان خط الوحدة الإسلامية، وأعاد الحرارة لمشروع التقريب بين جناحي الأمة، وأطلق أسبوع الوحدة الإسلامية الذي أراد له أن يطل على قضايا الأمة كلِّها، ودعا المسلمين والعرب ومستضعفي العالم إلى وقفة مشرّفة مع الشعب الفلسطيني، انطلاقا من «يوم القدس العالمي» الذي أراده يوما للوحدة حول فلسطين وقضايا الأمة الكبرى.
إننا في الوقت الذي نستشعر خطورة ما جرى في زاهدان، وخصوصا في المرحلة التي تتعرّض فيها الجمهورية الإسلامية لسلسلة من الضغوط الدولية الكبرى، ولتهديدات متواصلة من العدو الصهيوني، نشعر بأن القيادة الإسلامية في إيران قد أحسنت التعامل مع هذا الحدث الخطير، وقطعت الطريق على الساعين للفتنة، العاملين لخدمة قوى الاستكبار العالمي والصهيوني بطريقة مباشرة وغير مباشرة.
إننا في الوقت الذي نؤكد ضرورة ملاحقة ومعاقبة كل أولئك الذين تُسوِّلُ لهم أنفسهم الاعتداء على أمن الأمة، سواء حصل ذلك في إيران أو في أي بلد عربي أو إسلامي آخر، ندعو - بموازاة ذلك - إلى القيام بخطوات وحدوية إسلامية ميدانية. وبهذه المناسبة، فإننا نثمّن الصوت الذي انطلق من إيران، من خلال مرشد الثورة الإسلامية سماحة السيد الخامنئي، الذي اعتبر أن إساءة أي شيعي للسنّة تمثل خدمة للصهيونية و «إسرائيل»، وندعو إلى تأكيد ذلك بخطوات ميدانية تنعكس في وسائل الإعلام وفي الحركة الشعبية، كما ندعو المرجعيات الإسلامية، السنّية والشيعية، إلى السير في هذا الخط بما يرضي الله ورسوله، ويُسقط محاولات الأعداء للإيقاع بين المسلمين.
أما في لبنان، الذي يُقْبِلُ على الانتخابات النيابية وسط زحمة الزوّار، والتدخُّلات الخارجية التي تأتي للبنانيين تارة عبر نصائح سياسية مموّهة، وطورا عبر تهديدات مباشرة، فإننا نقول للبنانيين: حذار من السقوط في فخّ التهويل الذي ترسمه شخصيات سياسية، أو تَصُوغه مواقع دينية أو غير دينية، لأن حصانة البلد تأتي من الداخل، ولأن الوحدة الداخلية تمثل نوعا من أنواع المواجهة التي توصد الأبواب في وجه الساعين لاختراق الساحة الداخلية والعبث فيها سياسيا وأمنيا، وخصوصا من قِبَل العدو الإسرائيلي.
وعلى اللبنانيين، الذين شَحَنَهم الخطاب السياسي والإعلامي الانتخابي شحنا مذهبيا وعصبيا وحزبيا، أن يقاربوا المسألة الانتخابية من أكثر من زاوية. فمن جهة، عليهم أن يحدّقوا في المشروع الأميركي الذي لا يُبصر إلا مصالح «إسرائيل»، ليتحركوا في مواجهة هذا المشروع وما يخطط له في لبنان، وليقطعوا الطريق عليه بحركتهم الميدانية والسياسية والانتخابية... ومن جهة ثانية، عليهم أن يعرفوا أن دور النائب لا يتمثل في إصلاح طريق هنا، أو في ترتيب أوضاعهم في الريف وغيره، لأنها من الأمور التي يفترض أن تعالجها البلديات... إن دور النائب ينطلق في كل عملية التشريع، وفي انتخاب الرئيس، وفي إعطاء الشرعية لهذه الحكومة أو تلك، وفي الخيارات الكبرى التي قد تعود بالخير على الوطن والأمة، أو تنعكس وبالا عليهما، في التصديق على المعاهدات والتفاهمات وما إلى ذلك.
لذلك، إنني أخاطب في الناس ضميرهم وحسّهم الوطني والديني والإنساني، لأقول لهم: صوّتوا لمن يحمل هَمَّ القضايا الكبرى، كونوا مع دعاة الإصلاح الصادقين، تحرّكوا في الساحات التي ترفض رهن البلد للمشروع الأميركي، ولكل المشاريع المناهضة للوطن والأمة، سيروا في الخطوط التي تحمي البلد من العدوان والاحتلال وتحفظ خط المقاومة.
إن المقاومة الشريفة والصادقة التي قدّمت مئات الشهداء، وعملت على تحرير البلد، وتصدّت ولا تزال تتصدى لمخططات العدو وأطماعه، تتعرض في هذه الأيام لهجمة دولية منسّقة تستهدف النيل من سمعتها، ووضعها في خانة الإرهاب، في الوقت الذي يطّّلع العالم على هول ما خططت له «إسرائيل» من خلال شبكاتها التجسسية التي اغتالت المقاومين والمجاهدين في لبنان وسورية، من دون أن ينطلق صوت دولي واضح يتهم «إسرائيل» بالإرهاب والعمل على تخريب الأمن اللبناني وأمن المنطقة.
إننا ندعو اللبنانيين جميعا، والمسلمين والعرب وأحرار العالم، إلى الالتفاف حول هذه المقاومة التي تمثل عنصر الإلهام للأمة في خط العزة والعنفوان وصون كرامة الإنسان، وأن يعتبروا أن الحملة على المقاومة وإضعافها كالحملة على الجيش اللبناني وإضعافه، لأنهما يتكاملان في الدفاع عن الوطن، ويشكّلان قوة لبنان في مواجهة الأعداء.
استعرضت وسائل الإعلام الأميركية ردود أفعال مختلفة حول الخطاب التاريخي للرئيس الأميركي بارك أوباما الذي وجهه إلى العالم الإسلامي أمس الأول من جامعة القاهرة. وعندما سألتني صحيفة «نيويورك تايمز» عن رأيي في الخطاب، كان ردي بأن أوباما كان في وضع صعب، لأن أصدقاءه من حكام المنطقة لا يشاركونه في القيم الديمقراطية التي يتحدث بها، والحليف الاستراتيجي لأميركا هي «إسرائيل» التي يراها المسلمون بأنها العدو الاستراتيجي لهم، ولذا فإنه ألقى خطابا باحثا عن حل وسط، وإن كثيرا من الناس سيكونون سعداء لو استطاع تحقيق شيئا مما ذكره.
أوباما طرح خطابا مستنيرا واستخدم بمهارة فائقة آيات من القرآن الكريم لدعم خطابه الحميمي، واعترف بأن بلاده كانت خلف الإطاحة برئيس الوزراء الإيراني المنتخب ديمقراطيا في 1953 (محمد مصدق)، وهو أول اعتراف رسمي من أميركا في هذا الخصوص، واعتبر أن حق «إسرائيل» في الوجود يقابله مباشرة «حق فلسطين في الوجود» ، ومجمل خطابه مختلف جدا عن الرئيس السابق جورج بوش الذي كان يزيد العداء لبلده كلما فتح فمه... أما أوباما فإنه بلا شك قلل من مشاعر العداء لبلاده، وهو خطى خطوات جريئة باتجاه فتح صفحة جديدة مع العالم الإسلامي.
بالنسبة للشرق الأوسط، فإن هناك وجهات نظر كثيرة، إحداهن كانت تتبناها أميركا باستمرار، وهي أن «إسرائيل» هي القلب النابض والقوة الديمقراطية والحليفة الوحيدة التي يجب الارتكاز عليها لتشكيل مستقبل المنطقة. ولكن هناك وجهة نظر أخرى تقول إن المنطقة التي يطلق عليها «الشرق الأوسط» تتأثر بشكل كبير بما يدور في أربع عواصم، وهي «أنقرة»، و «الرياض»، و «القاهرة» و «طهران»، وإن أي تشكيل يراد له أن يكون آمنا ومستقرا لابد وأن يشمل مصالح هذه العواصم الأربع، والتي من خلال تأثيراتها يمكن أن تتشكل مظلة للاستقرار الأمني القائم على الاحترام والمصالح المشتركة.
ونرى أن أوباما زار كلا من أنقرة والرياض والقاهرة، وبقي عليه أن يتوجه الآن إلى طهران ليكمل مشواره الهادف لفتح صفحة جديدة مع المنطقة... فالشرق الأوسط سيكون مختلفا جدا إذا تفاهمت هذه العواصم الأربع مع بعضها البعض، وإذا تفاهمت أميركا معها على أساس الاحترام والمصالح المشتركة وقيم العدالة.
العدد 2465 - السبت 06 يونيو 2009م الموافق 12 جمادى الآخرة 1430هـ