يروي أحد زعماء حركة الاستقلال في الهند جواهر لال نهرو (ت 1964)، في قصة حياته حادثة كانت موضع تأمله الطويل، يقول: «أنشأ بعض الطلاب الهنود في لندن في بداية القرن الماضي جمعية لهم، وكانوا يناقشون في هذه الجمعية السياسة الهندية بشكل بالغ التطرف... كانوا دائماً متحمسين متطرفين».
أما نهرو فكان قليلاً ما يتكلم في هذه الجمعية، ولذلك كان هؤلاء الطلاب المتحمسون يوجهون إليه اللوم بسبب صمته وعدم حماسته، ثم مرت الأيام وعاد هؤلاء الطلاب ومعهم نهرو الى الهند فاكتشف نهرو بعد ذلك شيئاً عجيباً.
يقول نهرو، الذي أصبح بعد ذلك أول رئيس وزراء للهند بعد الاستقلال: «وجدت هؤلاء المتحمسين المتطرفين قد أصبحوا موظفين بإدارة الانتداب الانجليزية في الهند، ولم يلعبوا في الحركات السياسية أي دور فعال، أين راح سخطهم على الانجليز؟ أين ذهب حماسهم العنيف؟ كل هذا قد تبدّد على المكاتب الفاخرة التي أعدها الانجليز لهم في الهند».
البعض يلجأ إلى الصخب والصراخ، كالطبل وهو أجوف من الداخل. العاطفة الصادقة في الغالب عميقة ولا تتحدث كثيراً، وهي بسبب عمقها بسيطة لا تلجأ إلى الزخارف والمبالغات. أما العواطف غير الناضجة فتكون في الغالب محفوفة بالهذر والتصنع والادعاءات الفارغة وبكثير من النفاق، في حين تتحرّر العواطف الصادقة من العناصر الدخيلة الزائفة حتى تصبح عاطفة سليمة وتعبر عن نفسها بالأسلوب والتعبير المناسب.
عندما تصبح العاطفة الوطنية عرضةً لمزايدة البعض، أو مجالاً يسكب فيه أنصاف الموهوبين أشعارهم الغنائية طمعاً لا حباً، وتكسباً لا انتماءً، وتتحوّل فيه منابر الفتنة المتدثرة بدثار الدين إلى مكاتب لمنح شهادة ترخيص لوطنية المواطنين ومدى دخولهم في الإسلام الصحيح... وحين تصبح العاطفة الوطنية تحددها بورصة المصالح الشخصية والجهوية وأسهمها المتحركة وفق حالة الطقس المحلي والاقليمي، فسنعرف أنها عاطفة مغشوشة، من أبرز مظاهرها اختلاق «أعداء» للوطن و«خونة» و«أدعياء» يعملون على تنفيذ مخططهم الشيطاني!
يُنسب، من باب الشيء بالشيء يذكر، للدكتور جونسن عبارته الشهيرة في القرن الثامن عشر: «الوطنية هي الملاذ الأخير للأوغاد».
ومن مظاهر العاطفة المغشوشة احترافها الكلام، فالعاطفة المغشوشة تتحدّث كثيراً لكنها لا تعمل، على خلاف العاطفة الحقيقية التي تعبّر عن نفسها بالأفعال أكثر بكثير من الأقوال.
لقد ظهرت مبادرات أهلية عديدة هدفها رأب الصدع، وتوحيد الكلمة بين مكونات المجتمع البحريني، لكنها منيت كلها بالفشل، لأنها مبادرات تُواجَه بتنكر إعلامي رسمي، في الوقت الذي ينشغل فيه الإعلام الرسمي بما هو أهم بكثير من الحالة العاطفية والانسانية للمواطنين، وحتى لا نظلم «الاعلام الرسمي» سنذكّر للإنصاف بأن هناك أغاني وطنية تذاع وتعرض في إذاعة وتلفزيون البحرين.
في رواية «الساعة الخامسة والعشرون» للروائي الرومانسي كونستانتان جيورجيو، نجد البطل وهو يتهيأ لسفر بعيد ورحلة طويلة، ويخفق قلب حبيبته البسيطة التي تشعر نحوه بعاطفة كبيرة عميقة وهي لا تستطيع أن تقاوم قرار رحلته بعيداً عنها، رغم أن حياتها من دونه لا معنى لها ولا طعم. إنه بالنسبة لها جمال الحياة وعذوبة الدنيا وروعة الطبيعة.
وترجو البطلة حبيبها أن ينتظر قليلاً لتحدّثه في أمر مهم قبل أن يرحل، وبعد تردد يستجيب البطل، ويجلس على العشب، ثم يسترخي قليلاً ويستعد لسماع الكلمات المهمة التي تريد أن تقولها. ثم تبدأ هذه الحبيبة البسيطة الصادقة في الحديث وهي تبتسم في وداعة وحزن وتقول فيما أصابعها تعبث بشعر رأسه: «إن السماء صافية والنجوم جميلة». وتستمر في ثرثرة من هذا النوع، ومن خلال هذه الثرثرة البسيطة يشعر القارئ كم تحبه دون أن تقول كلمة حب، هذه هي العاطفة العميقة التي تعبّر عن نفسها ببساطة ومن دون صخب وبأبسط صورة...
وأما الزبد فيذهب جفاء.
إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"العدد 4007 - الإثنين 26 أغسطس 2013م الموافق 19 شوال 1434هـ
جميل جدا و حقيقي
ضِعافُ الأُسْدِ أكثرُ زئيراً
و أصرمُها اللواتي لا تزيرُ
جميل
استشهاد موفق ورائع
استنهاض الغضب عند المضطهد ايسر من خلق مبادرة حل له
الانسان المشحون حنقا لشعوره بالاضطهاد ليست مهمة صعبة استفزاز غريزة الغضب عنده باظهار التعاطف معه و تبني قضيته ولكن من الصعب عليه جدا انتاج مبادرة عملية قايلة للتطبيق تساعد "المضطهد" على تغيير واقعه
اعقل الناس اعذرهم للناس
من اين ياتوا هؤلاء المغلوبين على امرهم بالشجاعه في القول اذا تربوا على الخنوع ويتم تهديده في مواطنتهم