مصر مُهدَّدة. هذا هو الهاجس اليوم بالنسبة لكثيرين. لقد أفهَمَتنا التجارب، أن الدول الكبيرة عندما يَتَهَدَّد أمنها/ اجتماعها/ اقتصادها، يتهدَّد معها جوارها القريب والبعيد بالسَّواء، وربما العالَم كله.
هذه ليست فانتازيا تحليلية، بل هي الحقيقة. أمامنا تجارب لا يسترها شيء: العراق، سورية، اليمن، ومصر ليست بمنجى عن أحوال تلك الدول.
لكن السؤال المهم هنا هو: مصر مُهَدَّدة مِنْ مَن؟ الجواب باختصار، أن التهديد هذه المرة، من اقتتال داخلي، يبدأ أهلياً، ثم ينحسر، لصالح التنظيمات المسلحة (المتشددة والجوَّالة) سواء أكانت أفرعاً من القاعدة أو خلافها من التنظيمات. هذا المحذور إن وَقَع، فهو لن يكون مزحة، بقدر ما هو تحويل بلد عربي كبير إلى بلد كسيح ومُدمَّر.
لننظر جيداً إلى المسألة. جوار مصر ليس آمناً. هناك 1.759.541 كم من الأراضي الليبية من جهة الغرب. وهي أراضٍ غير آمنة، وتعجُّ بأنشطة هذه الجماعات، التي بدأت تصيغ المشهد الأمني في هذا البلد، وفي جوارها أيضاً، سواء في تونس أو الجزائر. فضلاً عن ليبيا باتت ممرات عبور لمثل تلك الجماعات وغيرها، من البر والبحر سواء. إنه جوارٌ رخو تماماً.
هناك شبه جزيرة سيناء، التي تمثل 6 بالمئة من الأراضي المصرية. هذه المنطقة بدأت تضم في جوفها الجماعات ذاتها. سيناء التي يُجاورها البحر المتوسط من الشمال، وخليج السويس وقناته من الغرب، والبحر الأحمر وخليج العقبة من جهة الجنوب، فضلاً عن كونها الرابط ما بين قارتي إفريقيا وآسيا باتت أرضاً بأمن هش، على جماعات منفلتة.
هذا فيما خصَّ الجوار المباشر. أما في الجوار الموالي لذلك الجوار، فهناك القاعدة المنتشرة في عموم المغرب الإسلامي وجزء كبير من إفريقيا وسطاً وغرباً وجنوباً وشرقاً. وربما يأخذ الممر القادم من مالي (التي تزدهر فيها تلك الجماعات) ما بين النيجر والجزائر، باتجاه الجنوب الليبي، عامل خطورة للأمن القومي المصري. كما أن استعار الصراع في نيجيريا (التي تفصلها عن مصر تشاد والسودان – أو ليبيا) يُشكل تهديداً لمصر أيضاً.
قبل أيام، نشرَت إحدى الجماعات الكينية، المحسوبة على حركة الشباب المجاهدين الصومالية، القريبة من تنظيم القاعدة (ونقلتها وكالة رويترز للأنباء) ما يُشبِه النداء لتحمية الجبهة المصرية. قالت تلك الجماعة: «إذا كانت هناك من لحظة سانحة لدعم القاعدة فهي الآن بالتأكيد. إن رفع الراية في مصر الآن يمثل أولوية إن شاء الله».
وقد ذكر موقع سايت المعنِي بمتابعة صفحات الإسلاميين على الانترنت بأن «حشد جبهة جهادية في مصر يخدم أهداف القاعدة في الفترة الأخيرة القائمة على استغلال الصراعات المحلية لدعم مقصدها، وهو قيام ثورة يقودها الجهاديون في المنطقة». ويدفع بذلك دعوة الظواهري مطلع هذا الشهر «جنود القرآن إلى خوض معركة القرآن في مصر».
والحقيقة، بأن الذي جرى في مصر بعد الإطاحة بحكم الرئيس السابق محمد مرسي، قد أنتَج شعوراً لدى جماعات الإسلام السياسي بأن الذي جرى لم يكن استهدافاً ضد الإخوان المسلمين فقط، وإنّما ضد «مشروع حكم الإسلاميين» وبالتالي، فإن المشترك في ذلك، أبعد من كونه حزبياً، وهو ما يجعل تلك الجماعات تستشعر الاستهداف المباشر، وبالتالي عليها التوحُّد لمواجهة عدو مشترك.
وربما تكمن المشكلة، في أن انحسار الخيارات أمام الإسلاميين المعتدلين، سيدفع بهم لأن يلجأوا إلى التنظيمات المتشددة، كونها القادرة على إشباع رغبتهم في الثأر، أو على أقل تقدير شعورهم بأنها توفِّر لهم المبادرة للحصول على مكاسب سياسية. هذا الأمر حدث مع بداية ظهور جماعة الجهاد في مصر، وتجذَّر ذلك لاحقاً في أفغانستان.
إن وجود هذا الشعور، مع توفر جوار جغرافي ممتد، تدعمه أفكار أيدلوجية متشددة، ويقوِّيه سلاحٌ غير قليل، مما هُرِّبَ من ليبيا بعد سقوط القذافي، وانغلاق أي بوادر لحل سياسي مصري، سيعني أن البلد تَلِج في أتون أزمة حقيقية، ستكون القاعدة خاصرتها الصلبة. وعندما يقع هذا الأمر، سيصبح الجيش المصري في حالة استنزاف.
عندما كنت أقرأ التصريحات التي كانت تصدر عن أيمن الظواهري، وعن حركة طالبان وتنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي ومثيله في جزيرة العرب المناهضة للجيش المصري، والمنددة بما جرى في مصر ضد حكم محمد مرسي، أضع اليد على القلب، لا لشيء، سوى خشية انزلاق هذا البلد بمثل ما انزلقت إليه سورية واليمن وباكستان وقبلهم العراق.
إن المحافظة على مؤسسة الجيش في مصر (بمعزل عن أحداث الثلاثين من يونيو والانقلاب على الرئاسة) يعني المحافظة على تاريخ مصر الحديث. فهذا الجيش ليس جيشاً عادياً، ولا عقيدته بعقيدة واهِنة، وليس مُختَرقاً بالمشاكل الإثنية والطائفية. كما أنه لا يزال متماسكاً في تراتبيته، واستقلاليته الاقتصادية، وبالتالي، يبقى المكان الأكثر تحصيناً والأكثر أمناً وضمانة لمصر ومستقبل أمنها القومي.
إن تجربة العرب مُرَّة مع هذا الشكل من الاستنزاف. في التسعينيات، جُرَّ الجيش الجزائري إلى عشرية سوداء، وفي بداية الألفية، انفرط عقد الجيش العراقي ولاحقاً السوري، وترهل الجيش اليمني، وأصبحت تلك الدول دولاً جريحة (مع الفارق). وربما كانت مصر ستدخل إلى النفق ذاته بعد يناير من العام 2011 لولا أن الأمور مرَّت بأمان حينها.
اليوم، تظهر ملامح هذا الأمر مرةً أخرى في أرض الكنانة، وهو أمرٌ مُرعِب. ولا أجد كلمةً أجدى من هذه الكلمة. إنه أمرٌ مُرعِب حقاً. فانفراط عقد مؤسسة الجيش، سيعني انتشار السلاح، وتجوُّل السيارات المفخخة، وسماع دوي الصواريخ، واستعار الاغتيالات، وهذا السيناريو هو من صور الموت البطيء للدول. فهو الضربة التي أقعَدَت دولاً كانت راسخة، أمنياً وسياسياً. وعندما يحدث ذلك في مصر، فإن العالم العربي سيخسر الكثير.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4006 - الأحد 25 أغسطس 2013م الموافق 18 شوال 1434هـ
داااااهم
إن ضربها هذا الوباء التكفيري والتفسيقي فعلى مصر العروبة السلام