في الخامس عشر من الشهر الجاري، غَيَّب القَدَرُ رجلاً كريماً من رجالات الكويت. إنه أبو المشاريع الإنسانية المشهود لها في إفريقيا الدكتور عبد الرحمن بن حمود السميط. هذا الرجل، لا يُرفَعُ شأنه بِنَثر، ولا تَسْمُو منزلته بقَرِيض، ولا تُوصَفُ إفاضاته بِهَسِيْس كلام عابر، فهو أكبر من أن يُنثَر أو يُقرَضُ فيه القصيد، وهو أيضاً، أكثر اتساعاً من النعوت. والسبب في كل ذلك، أن فِعْلَه قد طَغَى على قوله، وما بين القولِ والفعلِ سماء.
قَضَى الراحل، ثلاثين عاماً في العمل الإنساني في إفريقيا، كانت حصيلتها تشييده لـ 860 مدرسة، وخمس جامعات، وخمسة آلاف وتسعمئة مسجد، ومئة وثمانية وستين مستشفى، وتسعة آلاف وتسعمئة بئر ماء، وسبع محطات إذاعية. وأسلَمَ على يديه، ثمانية ملايين ونصف المليون شخص. (ذَكَرَ الأمين العام للأمانة العامة للأوقاف الكويتية عبد المحسن الجار الله الخرافي قبل أيام، بأنهم أحَدَ عَشَرَ مليون شخص).
أمام كل ذلك الفِعْل الكبير، ترتجف حروف التأبين وتغيب كلمات الإشادة حقاً. لنا أن نتخيَّل، أن منظمة الصحة العالمية، التي هي (السلطة التوجيهية والتنسيقية ضمن منظومة الأمم المتحدة فيما يخص المجال الصحي». وهي التي أنشِئت منذ العام 1948، ويعمل فيها «ما يزيد على 7000 شخص من أكثر من 150 بلداً في 150 مكتبٍ قِطْرِي وستة مكاتب إقليمية) استعانت بالراحل الرجل والفرد، في حفر الآباء المائية في إفريقيا! عجباً!
ليس شيئاً عادياً أن يترك المرء (كما في حالة الراحل) نعيم المقام، لينام على حَسَكِ السَّعدَان. ولا أن يترك الماء الزلال، ليشرَبَ الماء الآسِن. ولا أن يترك موائد الملذات، ليأكل مما وَلَغَ الذبابُ فيه. ولا أن يترك الأجواء الباردة، ليعيش في جوِّ يضربه الجفاف كلَّ حين، وتلهب أرضه وهواءه أشعة الشمس، فلا تغادره إلاَّ وهو لهِيبٌ لا يطيق المرء تَنَشّقه. لذا، لم يحلُ للراحل سوى العيش في فقر مناكارا، وبجوار الأنتيمور، ومع البعوض والمخاطر.
هذا بالضبط، ما دَرَجَ عليه الراحل السميط، طيلة وجوده في العمل الإنساني في صحاري إفريقيا. وربما كان ذلك سبباً رئيساً في إصابته بالملاريا، وبالأمراض التي لازمته وأقعدته حتى نهاية حياته. وإلاَّ كان بإمكانه كطبيبٍ حاذق في الجهاز الهضمي، تعلَّمَ وعَلَّمَ وعاشَ في الغرب، أن يخلد في مدينة الضباب، وأن يعيش حياة أبناء الذوات، ويستمتع في جبال الألب، ومُدن النمسا والريف الألماني، وتُنشَر صوره وأبحاثه في أشهَر المجلات العالمية.
إلاَّ أنه كان يجد حياته في حَمْل الأطفال الأفارقة المرضى، والنوم في أعشاش الفقراء، ومؤانسة المسحوقين. وجَلبِ اللقاحات والأطعمة. والإشراف على تنمية القرى النائية. عاشَ بعيداً حتى عن أسرته. وقد تفاجأ في لحظة ما من حياته، أنهم يكبرون وهو بعيدٌ عنهم. وعندما حاول حَمْلهم إليه حيث إفريقيا، لم يمنحهم برنامجاً سياحياً للاستجمام، بل هم يأتون إلى حيث هو يعمل وبطريقته، لا يُغيِّر من برنامجه شيئاً أبداً.
كان الراحل السميط مُفعماً بالإنسانية. ورغم أنه كان يقول، بأنَّ قلبه ماتَ بعد ثلاثين سنة من العمل الخيري في إفريقيا نتيجة المشاهد المروِّعة التي رآها في تلك القارة، إلاَّ أنه عاش حتى أيامه الأخيرة، كمُؤْثِر، ومُتحسِّس لآلام الناس. وهو عندما نال جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام، والبالغة مئتي ألف دولار تقريباً، تبرَّع بقيمتها كاملةً لمسائل التعليم في إفريقيا.
أمام كلّ هذا الجهد الذي بَذَلَه الراحل السميط، والإنجاز الذي حققه، إلاَّ أنه عاشَ سنواته الأخيرة، وفي قلبه غُصَّة. كان قلبه يتقطَّع، وهو يرى مئة ألف طفل من طَلَبَة القرآن، يُصابون بالعمى الدائم سنوياً في الصحراء الكبرى بسبب نقصٍ في فيتامين (أ)، في الوقت الذي لا تُكلِّف جرعة الدواء من ذلك الداء، سوى فِلسٍ واحد، تمنحه المناعة لثلاثة أعوام قادمة. كان يعتصر وهو يرى أن عشرة فلوس فقط، تمنح مصاب الملاريا فرصة الحياة مرةً أخرى، إلا أن كثيرين يموتون أمام ناظريه، فإمكاناته لا تستطيع أن تُغطي 800 مليون إفريقي.
كان يقول، بأنه أجرى دراسةً حسابية، خَرَجَ منها بنتيجة مُحزنة، وهي أن زكاة أربعة من الأسواق المالية الخليجية للأسهم، كفيلة بإطعام جميع فقراء العالم، وليس المسلمين فقط، في الوقت الذي يرى، أنه وفي العام 2009، ما تمَّ جمعه لأغراض التنصير، هو 410 مليار دولار. وللعلم، لم يكن الراحل معادياً حتى لأولئك المُنصِّرين، بل إن علاقته كانت جيدة بهم، فقد كان عاكساً للخلق الحسن، إلى الحد الذي دَفَعَ بأحد القساوسة، لأن يبني مسجداً للمسلمين، بأحد الأماكن التي ينشط فيها الراحل، وهذه إحدى سماته.
لقد كان الخلق الحَسَن، وطِيب المجالسة حتى مع خصومه، وأغياره في الدين، من أكثر ملامح شخصية الفقيد. وكان ينتقد بعض الدعاة المسلمين، الذين يرفضون مصافحة مَنْ هم على غير دينهم. وكان هذا الأمر، من أكثر الأشياء التي جَعَلَت الراحل، لأن ينفذ إلى قلوب الناس، ويُكوِّن معهم علاقات إنسانية، خارج إطار الدِّين، وكأنه يطبق: «فَبِمَا رحمةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لهم ولو كُنتَ فظًّا غليظَ القلبِ لانفضُّوا من حولِك» (آل عمران، 159).
لم يُلوثه تعصُّب ديني ولا عِرقي ولا سياسي. كان عقله وقلبه كبيريْن جداً. في العام 1990، وبعد احتلال الكويت من قِبَل نظام صدام حسين، أعتقِل الدكتور السميط، وأخِذَ إلى بغداد، حيث عُذِّب بشدة في وجهه السَّمح وفي قَدَميه، لكنه، وبعد عقدٍ ونيفٍ من السنين، وعندما احتل الأميركيون والبريطانيون العراق، ذهب السميط إلى المدن والأرياف العراقية، حيث قدَّم المساعدات للطلاب العراقيين، وللأسر التي ضربها الفقر والإملاق.
أتذكر هنا قولاً للإمبراطور والفيلسوف الروماني ماركوس أوريليوس حين قال: «لا يجب أن يخشى المرء من الموت، بل من ألاَّ يبدأ أبداً في الحياة». والراحل السميط فعلاً خَشِيَ أن لا يبدأ حياته دون رسالة، فانبرى نحو ما كان عليه.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3999 - الأحد 18 أغسطس 2013م الموافق 11 شوال 1434هـ
سنابسيون
الله يرحمه برحمته الواسعه صحيح لا تقل كم عاش ولكن قل كيف عاش
شكرا كاتبنا العزيز
أجمع الكل على حب هذا الشيخ الفاضل
لأنه يملك قلبا محبا في الله
شكرا بوعبدالله
شكرا لاختيارك هذا الرجل لموضوع مقالك ،،، ياليتنا نلقى هذا الشرف
اقد ابكيتنا يا رجل..رحم الله الدكتور السميط واسكنه فسيح جنانه..
قال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [سورة الأحزاب:23-24].
هذا المقال احسن ما قرأت في رثاء السميط وجزاك الله خيرا عن كل حرف
انظر الفرق
كيف جعل من الاسلام حياة للآخرين
وغيره جعل من الأسلام موت للآخرين
شتم تكفير وقتل وتفجير وووووو
اللهم ارحمه ونشكرك الكاتب على هذا التوضيح
لم اكن اعرفه
ولكن يا استاذي الكريم الآن انا اعرفه واعشق نهجة وشخصه ، رحمة الله عليه
اللهم اسكنه فسيح جناتك يا الله
هؤلاء هم الخالدون ..
القائد امن يعاشر الناس وينزل لمستواهم وياكل من اكلهم ويشرب من شرابهم ..السميط كان يتالم عندما يقدم له الافارقة والدموع على خدهم يقولون (( اين انتم عنا يا مسلمون لقد مات اباءنا واجدادنا دون ان يعرفو الاسلام )) حقا يستحق التامل المسلمين متناحرين ليس لهم وقت لدعوة .. نحتاج ك السميط مسلم دون تعصب لاي مذهب متسامح مصافح كل من اختلف معه في الراي ..وات نحتاج لدعاة الفضائيات وراكبي الخيل .. والقاضين اجازتهم في لندن ..