العدد 3999 - الأحد 18 أغسطس 2013م الموافق 11 شوال 1434هـ

بين السجن والفضاء

سوسن دهنيم Sawsan.Dahneem [at] alwasatnews.com

في الحياة، هناك من يختار لنفسه سجناً يعيش خلف قضبانه منعزلاً عن خيارات الفضاء الواسعة بما تحمله من مشاعر وفرص وجماليات. هذه السجون تكون في أحيانٍغير مادية، يسجن فيها المرء مشاعره وأحلامه وعقله ومستقبله، فيتفنن في خلق الأوهام التي تمسي مع الوقت سدوداً وجدراناً تحول بينه وبين أحلامه ورغباته، من غير أن يحاول أن يتقدم ولو خطوة واحدة لكشفها ومعرفة ما يمكن أن يختبئ خلفها.

لكنها في بعض الأحيان حواجز وسجون مادية حقيقية ينتجها الخوف والقلق وعدم الجرأة على الإقدام والتجربة والمواجهة، كما حدث لـ « كارل لوك» في العام 1954م الذي قتل ثلاثة لصوص هجموا على بيته، فكانت القضية في بادئ الأمر في صالحه باعتباره كان في موقف دفاع عن النفس، قبل أن يتضح أن اللصوص كانوا أخوة وأنهم كانوا على غير وفاق مع لوك، فاتهمه الإدعاء العام بالتخطيط للجريمة من خلال دعوتهم وقتلهم والإدعاء بأنهم أرادوا سرقته. حين أدرك لوك أن الأمر سينقلب ضده، اختفى عن الأنظار وفشلت محاولات العثور عليه لسنوات طوال؛ إذ اتفق مع زوجته على الإختباء في قبو موجود داخل منزلهم لا تتجاوز مساحته متراً في مترين، واتفقا على إخفاء الأمر عن أبنائهما أيضاً خوفاً من إفشائهم للسر، ولكن الزوجة توفيت بعد فترة قصيرة في حين كبر الأطفال وهم يعتقدون بأن والدهم قد مات. وهكذا عاش كارل لوك في قبره الاختياري لمدة 37 عاماً كان خلالها يسترق اللحظات للخروج إلى المطبخ وتناول ما يسد به جوعه وعطشه من غير أن تعلم بأمره العوائل الثلاث التي سكنت المنزل تباعاً.

غير أن لوك أصيب بالربو بسبب الغبار وعدم تهوية القبو، وبات يسعل باستمرار ما أدى إلى افتضاح أمره في إحدى الليالي، حين سمع رب البيت سعاله فاستدعى الشرطة الذين أخرجوه من مكانه وسألوه عن هويته، فصدموه بحقيقة ما جرى إذ قال له أحدهم بعد أن تعرف عليه: بعد اختفائك اعترفت والدة اللصوص بأن أولادها خطّطوا لسرقة منزلك، فأصدر القاضي فوراً حكماً ببراءتك، لكنك آثرت أن تسجن نفسك على جرم لم تقترفه!

هكذا نتصرف أحياناً بسبب جهلنا بما قد تؤول إليه الأمور، فنستبق الأحداث باختيار الطرق التي قد تبدو أسهل، ولكنها قد تكلفنا حرياتنا واستمتاعنا بلحظاتنا وبأعمارنا، وما أكثر ما تضيع الفرص منا ونحن ننتظر المبادرات من الآخرين خوفاً من السعي إلى المبادرة ومواجهة مصاعبنا وأخطائنا ومصائرنا.

هذا الواقع يزرعه بعضنا أحياناً من غير وعيٍ منا في نفوس أطفالنا أيضاً؛ حين نربّي الخوف بداخلهم، الخوف من إخبارنا برغباتهم وأخطائهم، والخوف من رفض آبائهم لما سيصرّحون به، والخوف من خسراننا حين يتسبّبون في أذيتنا بتصرفٍ طفوليّ عفويّ أدى إلى نتائج غير التي توقعوها، وهو ما لفت انتباهي إليه تصرف طفليّ قيس ورند حين لا يصرحان أحياناً برغباتهما في الخروج أو اللعب بالأجهزة الإلكترونية لفترات طويلة أكثر من تلك المخصصة لهما، فأسمعهما يتهامسان برغبتهما من غير التصريح لي بها، إلى أن استطعت اقناعهما بكثير من الجهد أن عليهما أن يطلبا ما يشاءان ويتركا للآخر حرية الرفض أو القبول، كي لا يخسرا فرصةً كان من الممكن أن توفّر لهما ما يتمنيان بسبب الخوف من الرفض.

مثل هذه الدروس لابد لنا من تقديرها والاقتناع بها، لننقلها إلى أطفالنا كي لا يكرّروا ما ارتكبناه من أخطاء كانت سبباً في خلق سجون داخلية وخارجية لنا لفترات من أعمارنا، ولينطلقوا إلى الفضاء الرحب حاملين معهم آمالهم وأمنياتهم ينثرونها للسماء ليحقّق الله ما ينفعهم منها.

إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"

العدد 3999 - الأحد 18 أغسطس 2013م الموافق 11 شوال 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 2:34 ص

      بالفعل نسجن انفسنا بانفسنا

      ممتتتتتتتتع كثيرا هذا المقال اخرجني من شرنقة السياسة التي كبلت المقال التي قبله

    • زائر 1 | 2:19 ص

      مقال جميل

      جميل جدا وعلى قدر عملك تحصد

اقرأ ايضاً