العدد 3997 - الجمعة 16 أغسطس 2013م الموافق 09 شوال 1434هـ

إحباطات النُّخبة

ياسر حارب comments [at] alwasatnews.com

شاهدتُّ مقطع فيديو قصير على يوتيوب لأحد النُّخب المثقفة في الخليج ولديه مئات الآلاف من المُتابعين على تويتر وفيسبوك وفي مختلف وسائل التواصل الاجتماعي. كان يتحدث بانكسار عن الماضي، ومحاولاً، بطريقة يائسة، أن يُقنع المُشاهد بأن ماضيه المليء بالهزائم والانكسارات لم يُثنِه عن المُضي قُدُماً. ثم حاولت أن أفهم منه معنى «قُدُماً!» فهو لايزال مُنكسراً، مُحْبَطاً ومُحْبِطاً، كتاباته لا تشي إلا بالانهزامية، واليأس تجاه أوضاع العرب وقضاياهم. يغوص في عمق المُشكلات العربية حتى يصل إلى قاع يختنق فيه، ثم تجفو أفكاره على الورق كجثة هامدة، أحادية الرأي لم تعرف من الحياة غير الانكسار.

لهذا المثقف أشباهٌ كُثُر، مشهورون جدّاً، ومُحبَطون أيضاً جدّاً، يحاولون أن يُقنعونا بأنهم ليسوا كذلك، إلا أن طرحهم الفكري يكاد يُقسم بأنهم كذلك. اسأل نفسك الآن: ألا تشعر بأنك مُحبَطٌ ومنكسر منذ مدة دون أن تعرف السبب؟ إذا كُنت كذلك، فتذكر الآن البرامج التي تُشاهدها، والمقالات التي تقرأها، والتغريدات التي تتابع أصحابها في تويتر، وستكتشف أن قائمتك تعتصِرُ بهؤلاء المُثبّطين الذين تتوسم فيهم الخير، وتُجاهد نفسك لتصبر على سلبيتهم.

ابتعدتُّ قبل مدة عن وسائل التواصل الاجتماعي، وعكفتُ على مشاهدة المسلسل التاريخي «صقر قريش» الذي أشاهده للمرة الثانية. وفي نهاية المسلسل ظللتُ مكتئباً ليوم كامل وشعرت بضيق كدتُّ أختنق معه. حاولتُ أن أتذكر ماذا أكلت ليسبب لي كل ذلك التوتر؛ فاكتشفتُ بعد تفكير قصير أنني لم أُغير في نظامي الغذائي، لكنني غيرتُ نظامي الفكري، وأنهكتُ نفسي بالصراع السياسي وإحباطات المُتقاتلين على الحُكم والسُّلطة في المسلسل، لدرجة أنني شعرتُ وكأنني تسممتُ بدنيّاً وفكريّاً.

هذا لا يُنقص من شأن المسلسل الذي أظنه خيراً من كثير من الدروس الجامعية في التاريخ والسياسة، لكنني عشتُ انكسارات قديمة تجاوز عمرها ألف سنة أو يزيد وكأنها تحصل الآن. ثم بدأتُ أتذكر أولئك المشاهير المنكسرين الذين نُتابعهم فأدركتُ أن جُرعات الإحباط التي يبثونها في عقولنا لا تقل تثبيطاً لعزائمنا وكسراً لأرواحنا من حروب الأولين. الغريب في الأمر أن قصة عبدالرحمن الداخل الملقب بصقر قريش كان المُفترض بها أن تبث فينا روح العزيمة، لكننا لا نُدرك إلا بعد تأمل قصير أن العزيمة كانت جانباً واحداً من حياته، أما الجانب الآخر فمليء بالدسائس والقتل والإبادة.

قبل سنوات كنت جالساً مع اثنين من المثقفين العرب اللذَين شهدا حقبة الثورات العربية والإقليمية منذ الخمسينات وحتى نهاية السبعينات. وكنت أسألهما عن سبب إحباطاتهما كلما تحدثا أو كَتَبا، فقالا لي إنهما كَبرا في جيل أعطته الثورات العربية في بدايتها أملاً بتغيير حال العرب إلى الأفضل، وكانا يخرجان في التظاهرات ويشاركان في المهرجانات والاحتفالات ويحتفيان، مع بقية أصدقائهما، بانتصار شعارات الحُرية والعدالة والمُساواة، وغيرها من «اليافطات» كما وصفها أحدهما، إلا أن الأيام ما لبثت حتى أثبتت أنها من باب التدليس وقهر الشعوب باسم الحُريّات. ولهذا فإن جيلاً كاملاً، وربما اثنين، قد أحبط تماماً، وأُبيدت أحلامه عن بَكْرةِ أبيها، ولذلك فإنهما لم يعودا قادِرَيْنِ على التفاؤل. ثم ختما حديثهما بنعتي وأفراد جيلي بالمحظوظين؛ لأننا لم نعرف الانكسار مثلهما، وأننا قادرون على الحُلم والسعي وراء المستقبل.

حديثي هذا لا شأن له بالثورات العربية المُعاصرة، فتحليلها لايزال غير منطقي حتى الآن، وسنحتاج إلى سنين طويلة لنستوعب ما جرى حقّاً، لكنني أتحدث عن كثير مِن النُّخب الخليجية خصوصاً، التي تغرق كل يوم أكثر عن السابق في الإمعان في تطرفها تجاه صراعات تجري خارج حدودها حتى نسيت قضاياها التنموية، وهمومها الوطنية، وصار واقع الأرض بعيداً كل البعد عمّن ينتمون إليها، بل إنك لتشعر إذا ما دخلت مجلساً خليجيّاً أنك تعيش في مصر أو سورية أو ليبيا أو تونس وليس في الخليج. نعم قضايا العرب والمسلمين مهمة ولا شك، لكن الأهم هو ألا نقع في الهَمّ، ونوقع من يؤمنون بنا ويقرأون لنا ويشاهدون برامجنا في أزمات نفسية وفكرية لا تمت إلى حياتهم ومستقبلهم بشيء. وكم أستغرب عندما أقرأ تغريدات الشباب الخليجي المُنغمس في قضايا خارج وطنه وأسأل نفسي: هل يهتم أهل تلك الدُّول المنكوبة لمواقف هؤلاء الشباب، أيّاً تكن؟ ولو استمر الحال هكذا لخمس سنوات مقبلة، فسيظل هؤلاء الشباب، تقودهم النخب المحبطة، يبتعدون عن هَمّ جيل بلدانهم، وتطلعات أبنائهم، وسيصيرون كالغراب الذي حاول تقليد مشية الحمام فلم يستطع، فلا ظل غراباً ولا صار حمامة!

إن القضايا التي تشغل أي مجتمع تُبيّن مدى وعيه مِن تخلفه، والنقاشات التي تتبناها النُخب إما أن تصنع الرأي العام أو تُضيّعه. لذلك أقول للمُحبِطين: انكسروا وَحْدَكم ودعوا الشباب يحلمون بغد أفضل. وإن عجزتم عن إنارة دروبه، فلا أقل من أن تُميطوا سوداويتكم عن طريقه.

إقرأ أيضا لـ "ياسر حارب"

العدد 3997 - الجمعة 16 أغسطس 2013م الموافق 09 شوال 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 11:58 م

      كن ايجابي ..

      مقال جدا رائع .. بحاجه لهذا الفكر في مجتمعاتنا ..

اقرأ ايضاً