بعد انقطاع استمر منذ أواخر العام 2010، عقدت في (29 يوليو/ تموز الماضي) مفاوضات تسوية القضية الفلسطينية، بمدينة واشنطن، برعاية أميركية. ترأس المفاوضات عن الجانب الفلسطيني، صائب عريقات، وعن الوفد الإسرائيلي وزيرة العدل، تسيبي ليفني، وقد انتهت المحادثات التمهيدية، واستؤنفت المفاوضات الأربعاء الماضي حسبما أعلنت الخارجية الأميركية.
وفي الوقت التي وُصفَت فيه مفاوضات التسوية بالعبثية والتفريط المتواصل في الحقوق الفلسطينية، فإن الكيان الصهيوني استثمرها، ليس فقط لتحقيق المغانم على طاولة المفاوضات، لكن أيضاً، لمواصلة نهجه في استكمال الاستيلاء الشامل على أرض فلسطين، عبْر التهويد والاستيطان. وكانت آخر جولة من المفاوضات قد تمت بوساطة جورج ميتشل، وقدم خلالها مقترحات بقيام دولة فلسطينية في حدود مؤقتة، رفضت في حينه من قبل الرئيس محمود عباس.
في المفاوضات التي جرت نهاية العام 2010، شملت مقترحات ميتشل لتسوية الصراع، أن تقدم الحكومة الإسرائيلية مبادرة حسن نية، بإطلاق سراح عدد من المعتقلين الفلسطينيين، وإزالة بعض الحواجز العسكرية، وتسليم المسئولية الأمنية للسلطة. وقد ضربت إسرائيل بتلك المقترحات عرض الحائط، والآن يعاود وزير الخارجية الأميركي جون كيري طرح مبادرة حسن نية مماثلة، شملت إطلاق سراح فلسطينيين اعتقلوا قبل اتفاق أوسلو1993، وإقامة مناطق صناعية فلسطينية - إسرائيلية - أردنية بالأراضي المحتلة لتشغيل الفلسطينيين، والسماح بإدخال ذخيرة للأجهزة الأمنية الفلسطينية وإقامة بنى تحتية، مع شق طريق حول محافظة رام الله، ومنح تراخيص للبناء، وعدم هدم البناء غير المرخص في قرى محددة، وبناء مطار في رام الله.
وعلى رغم أن هذه المبادرة لا تتعامل جذريّاً مع جوهر القضايا المعلقة، فإن سوابق سلوك الكيان الغاصب، تشي بأنه لن يوافق عليها، وسيطرح جملة من الذرائع للتنصل من تنفيذها. وصيغة المقترح الأميركي تؤكد سلامة هذا التوقع .فإطلاق سراح الفلسطينيين، وفقاً لمقترحات كيري، يتم على أربع مراحل، وهو مرهون بنجاح المفاوضات، بمعنى أنه ورقة ضغط مستمرة على الوفد الفلسطيني المفاوض .
لقد اعتبر رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، استئناف المفاوضات «مصلحة حيوية لدولة «إسرائيل».فاستئنافها يمنحه المزيد من الوقت لخلق حقائق استيطانية جديدة على الأرض، تمكنه من أن يملي على منظمة التحرير الفلسطينية «الحدود» التي يعدها «آمنة»لكيانه، وليظل كيانه من غير حدود ثابتة، ومفتوحاً دائماً على نهج التوسع والعدوان .
ولا شك في أن هذه المقترحات تضاعف من معضلة الانقسام الوطني، وتؤجل المصالحة الفلسطينية بين الضفة والقطاع، لتسعة أشهر على الأقل، وتؤجل للفترة ذاتها أي توجه من قبل أبو مازن نحو الأمم المتحدة للبناء على اعتراف الجمعية العامة بفلسطين دولة غير عضو .والأدهى أن المفاوضات الحالية تتم من غير أي ضمانات بتجميد بناء المستوطنات بالضفة الغربية، وفي القدس تحديداً، فضلاً عن وقفه بالكامل .والمعنى المتضمن كل ذلك، هو التوجه نحو مفاوضات الحل النهائي، من غير التزام نتنياهو بأي من الوعود التي جرى الاتفاق عليها بموجب الاتفاقيات الموقعة للمرحلة الانتقالية .
المفاوضات هذه تؤكد الشكوك بنوايا نتنياهو الذي وصفه بوسي بيلين في مقال له في الجروزالم بوست في 30 يوليو/تموز الماضي، بأنه «نكث بكل ما قاله طوال حياته السياسية».ويعزز من هذه الشكوك ما قالته وزير الخارجية الأميركية السابقة، مادلين أولبرايت، إن المفاوضات الحالية ليست إلا بداية البداية، لعملية طويلة لا توجد أي ضمانة لنجاحها .أما جنيفر بساكي، المتحدثة باسم وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، فاعتبرت اجتماعات المتفاوضين التي تمت في واشنطن فرصة لوضع خطة عمل إجرائية لمفاوضات «الوضع النهائي».
لقد سوغ وزير الخارجية الأميركي، جون كيري استئناف المفاوضات برعاية مباشرة من بلاده بالقول، إن التجربة والفشل أفضل من عدم فعل أي شيء . لكنه تجاهل عن عمد مخاطر الاستمرار في بناء المستوطنات اليهودية في الضفة والقدس على الوجود الفلسطيني بأسره، وتناسى أن موضوع القدس بالذات هو أحد أسباب فشل المفاوضات السابقة، بين الفلسطينيين و»الإسرائيليين» .
لقد قبلت منظمة التحرير باستئناف المفاوضات من دون نيل موافقة «إسرائيل»على وقف التوسع الاستيطاني، كما قبلت بأن تجري المفاوضات، على أساس مبدأ تبادل الأراضي، بما يعني الاعتراف بالمكاسب الإقليمية التي حققها الاحتلال بالاستيطان غير المشروع .والقضية مفهومة لكل ذي بصيرة . فالفلسطينيون دخلوا لعبة المفاوضات، في ظل خلل كبير في توازن القوى مع العدو، وكان المؤمل أن يجري التعويض عن هذا الخلل بموقف عربي تضامني لتصليب، الموقف الفلسطيني، بما يحقق تطلعات الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة .
وقد علمتنا التجربة، أن العرب حين يكونون أقوياء، يتمكنون من فرض إرادتهم وينتزعون حقوقهم .ففي ظل الضعف تم احتلال فلسطين، وفي ظل التشرذم حدثت نكسة يونيو، ومع انشغال العرب بهمومهم الداخلية، عاود الاحتلال الصهيوني، الاستيلاء على كل المناطق الخاضعة للسلطة الفلسطينية، وتخلص من الرئيس عرفات، وصنفت المقاومة الباسلة باعتبارها إرهاباً من قبل الأميركيين والأوروبيين .
التضامن العربي، أثبت في السابق قدرته على انتزاع النصر للعرب في مختلف قضاياهم .فكان عامل تسريع في انتصار الجزائر وتحقيق استقلالها، وكان عاملاً أساسياً في دحر العدوان الثلاثي على مصر عام ،1956 كما كان عامل تصليب للموقف العربي في نكسة يونيو/حزيران عام ،1967 وكذلك في انتصار مصر وسورية في معركة العبور عام ،1973 وهو وحده الكفيل بوقف تصاعد الاستيطان الصهيوني وتهويد القدس، وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، ووضع حد للتنكر «الإسرائيلي» للحقوق الوطنية الفلسطينية ومصادرة الأراضي في النقب وانتزاع مواطنة أهالي القدس واستبدالها بهويات إقامة لمدة عشر سنوات، وهو وحده الكفيل بهدم الجدار العازل واستمرار مصادرة الدولة الصهيونية للأراضي بالضفة الغربية .ولا شك في أن التمسك بعروبة القدس، هو البوصلة لتحرير الأرض، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة .
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 3996 - الخميس 15 أغسطس 2013م الموافق 08 شوال 1434هـ