العدد 3995 - الأربعاء 14 أغسطس 2013م الموافق 07 شوال 1434هـ

استشعار السياسة

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

دول لا تترك لشعوبها سوى شَمّ السياسة، وفي أحيان أخرى، حرمانه حتى من ذلك، فهي دول مُنكسِرة من الداخل، ومهووسة بالأمن والثروة. هذه الدول، تحرم
نفسها )قبل شعبها( من بناء مدماك قوي تستند إليه، وكسب الشرعية الطوعيَّة، التي توفر لها نظام حماية طبيعياً، لا يظهر إلاَّ في الأزمات والشِّدة.

ليس هناك قراءٌ للسياسة في دولنا، بل الصحيح، أن هناك صانعين للسياسة، وآخرين يَتَنَشَّقونها بأنوفهم لفهم موضعها وكُنهِهَا. ليس ذلك ضعفاً في أفهامنا أو مداركنا، لكن الفرق في الصَّنعَة لدينا (صَنعَة السياسة)، أنها لا تُرَى بالعَيْن بل يتمُّ تحسسها بمِنخَرَيْ الأنف، وفي أحيان أخرى بالسَّمع. هذا ما يُمايز السياسة عندنا والآخرين.

بالتأكيد، جميعنا تعلَّم (أو قرأ في مسائل الجغرافيا)عن مُكوِّنات قِشرَة الأرض من الأعلى حتى باطنها الملتهب. وبالرسم التوضيحي، سَنَجِد أن هناك قِشرَة، ثم محيطا، ثم وشاحا أعلى، ثم وشاحا خارجيا (ليثوسفير وأسينوسفير)، ثم وشاحا داخليا، ثم نواة خارجية، وأخيراً نجد النواة الداخلية للأرض.

ولو أردنا إسقاط تلك التفصيلات المعقدة والمتعددة للأرض وقشرتها على السياسة في دولنا من حيث بُعد النواة عن السطح، سنرى أن مدى الرؤية قد يكون منعدماً في الحاليْن، كونه يصطدم بعدد من الموانع، التي تَحُول دون رؤية تلك النواة، الكامنة في جوف الأرض.

والحقيقة، أن النواة في السياسة، (والتي هي الترجمة التنفيذية للحفاظ على المصالح أو توسيعها) مُغطَّاة بعدد من الأحزمة الساترة، التي تمنع رؤيتها. هذه السواتر، هي التحديات التي تواجه الشعوب وطبقاتها النابِهَة من مثقفين وطبقة وسطى في كيفية اختراقها، بل لنقل إدراكها مادام لها الحق في ذلك كونهم أفرادا من الشعب.

وما يزيد الأمر غموضاً وقلقاً، هو أنه مرتبط بعدد من المتغيِّرات، التي تؤثر فيه بشكل مباشر وغير مباشر، الأمر الذي يجعله رجراجاً، وسطحه كالزجاج، الذي تؤثر الخرمشات في جداره فيُحجَب وضوحه. وبالمناسبة، فإن هذا الارتباط بتلك المتغيِّرات، هو طبيعي في الأحوال العادية، إلاَّ أنه يُصبح غير ذلك، في الأحوال الذي يختل فيه المسار السياسي، حين يجنح باتجاه الخطأ، مكاناً وزمناً وتنفيذاً.

على سبيل المثال، يحرص كثيرٌ من السياسيين، على إبعاد القضايا السياسية المصيرية، (التي هي محل النقاش) عن وسائل الإعلام، كون تلك الوسائل، تساعد على تحمية الرأي العام، أو الضغط باتجاه تغيير بوصلة الحل، أو تشذيب تفصيلاته أو حتى إفشاله.

أيضاً، تحاول الأطراف المتفاوِضَة، إبعاد التفاصيل عن مراكز القوى المتوزِّعة، على سِماطَيْ الطرفين، والمتمركزة في مواضع مختلفة، ما بين معتدلة أو متشددة. وهو أمر، جُرِّبَ في العديد من جولات التفاوض التي جرت في ملفات دولية وإقليمية مختلفة، بُغية الحفاظ على ما تبقى من أمل في التسويات، أو إبعاد خيط الوصل عن الضربات الجانبية.

والحقيقة، أن لا الاعتدال ولا التشدد ولا الحفاظ على الأمل ولا الضربات الجانبية، هي بذات التفسير موضوعاً أو اصطلاحاً، حين تكون السياسة بغير ما هي عليه اليوم، من انحراف وسوء استخدام، وحَجْب عن الناس. بل هي تصبح عوامل جذب لا طرد حين تتعاطى الدول سياساتها بشكل شفاف وسليم.

كلّ هذا التكتُّم يلعب دوراً مهماً في حجب الأشياء عن الشعوب في دولنا لتبقى الخيارات أمامهم محدودة لفهم سياسة بلدانهم. لكن، ما يُميِّز «عامة السياسة» عن غيرها كما قلنا، هو أنها تُصنَع في مطبخ. ولأنها كذلك، فإنه يمكن استنشاق ما يُنفَث من ذلك المطبخ من روائح، حيث تكون بمثابة البَعرَة التي تدل على مسير البعير. لكن وفي أحيان كثيرة، يحتاط المهووسون برسم السياسة في عالمنا العربي، إلى الحد الذي يُبعِدون فيه حتى مجرى الريح عن مناخر الشعوب، كي لا يتحسَّسوا شيئاً مما يُطبَخ.

مثل هذه الأجواء المعقدة في السياسة، والمتاريس والموانع والحواجز والسواتر الموضوعة فيها وحولها، لا مجال لها في الأنظمة التي تتمتع بشفافية مع شعوبها. فهي لا تَعتَبِر شعوبها وزناً زائداً عن الجسم، أو أنهم غرباء، بل هم مشاركون في صناعة الأحداث، والسياسات المُنفَّذَة. لذا، فإن مثل ذلك، لا يُعتَمَد إلاَّ في الدول المتخلفة، التي لا تثق حتى في ناسها، والذين هم في الأصل أساس كل شيء فما خصّ الدولة والسلطة.

عندما ترجع إلى النقاشات التي تجري في مجلس العموم البريطاني، أو في الكونغرس الأميركي، أو في الجمعية الوطنية الفرنسية، تكتشف أنهم يُناقشون أشياء غاية في الحساسية والدِّقة، وبالتحديد فيما يتعلق بعلاقاتهم الخارجية مع دولنا. قد لا نقرأ ما يكتبون، ولا نستمع إلى ما يقولون، إلاَّ أن ذلك لا ينفي حدوثه. وربما أصبح ذلك أمراً عادياً بسبب ثقتهم في شعوبهم، والأهم مسئوليتهم الأخلاقية والوطنية أمام الناس.

أكثر من ذلك، فإن هناك دولا أوروبية، تُطرَح قضاياها الكبرى، في أتون النقاش العام، من صحافة ومنظمات مجتمع مدني، كي يُحاط الناس بدقائقها. بل إن سويسرا على سبيل المثال، والتي تعتمد مفهوم «الديمقراطية المباشرة» في نظامها السياسي، يُستفتَى شعبها أربع مرات سنوياً في قضايا وطنية ومُقاطَعيَّة وبلدية، وذلك بهدف إحاطة القرارات المتخذَة، بالمزيد من الشفافية، والإسناد والإرادة الشعبية، ما يجعله حيوياً.

أما الدول التي لا تترك لشعوبها سوى شَمّ السياسة، وفي أحيان أخرى، حرمانه حتى من ذلك، فهي دول مُنكسِرة من الداخل، ومهووسة بالأمن والثروة. هذه الدول، تحرم نفسها (قبل شعبها) من بناء مدماك قوي تستند إليه، وكسب الشرعية الطوعيَّة، التي توفر لها نظام حماية طبيعياً، لا يظهر إلاَّ في الأزمات والشِّدة.

يتزيَّنون بمؤسسات كارتونيَّة، لمناقشة توافه المسائل، أما الأمور المهمَّة، التي تُتخَذ فيها القرارات الحقيقية، فإنها تُحسَم عند مَنْ هم محسوبون مِنْ عظام الرقبة، لأن تلك المؤسسات هي غير فاعلة بالأساس، وهي كأسماك الزينة، والاستحلاب الشكلي. وبالتالي، هم أيضاً غير قادرين على فهم ما يجري إلاَّ بالتنشق وفتح المنخرَيْن!

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3995 - الأربعاء 14 أغسطس 2013م الموافق 07 شوال 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 5 | 3:38 ص

      دول لا تترك لشعوبها سوى شَمّ السياسة، وفي أحيان أخرى، حرمانه حتى من ذلك، فهي دول مُنكسِرة من الداخل، ومهووسة بالأمن والثروة. هذه الدول،

      الكاتب محمد عبدالله انت مثل الذي قال تكتب شئء وانت في الاساس تشجع هذا الخراب في التيار المحافظ في ايران هم ينطبق عليهم عمودك استشعار السياسة انا مستغرب مثل احد الزوار المشاركين الذي انتقدك صحيح مدحك لأشخاص دكتاتورين، البعثين يتكلمون عن ديمقراطية صدام والنازين يتكلمون عن هتلر والشيوعية وانصارة تتكلم عن الديمقراطيه والاخوان هكذا وانت تتكلم عن الفاشلين من التيار المحافظ في ايران و الله الحق والعظيم لو سمح لشعب ايران ان يغير نظامه لم يجعل تمر دقيقة بدون اسقاط نظام الفاشل مثل شعب مصر البطل الثائر

    • زائر 4 | 3:12 ص

      اخي العزيز الكاتب محمد عبدالله هذا الكلام لك انت شخصياً نعم ونقد مني

      انت كنت دائماً تمجد في ايران وتجربتة الفاشله وليسة ديمقراطية حتى امس رئيس الجمهورية شكل حكومتة وتم رفض حكومتة في البرلمان اين الديمقراطيه التي تمجد وتلمع فيها انت يا كاتبنا قالو للرئيس الروحاني ان الاشخاص الذي انتخبتهم لحكومتك هم ديمقراطين وتنورين وناس مثقفين يدعون التغير والاصلاح ما افسدهو الدهر ونحنو لا نتحمل كلمة من يقول لنا اتقوى الله في شعب ايران هذه عقلية الرئيس محمد مرسي والرئيس التركي والنظام الايراني يرفض التجديد اسلام متزمة محافظ غبي وانت تلمع انصار المحافظين يا كتبنا محمد عبدالله

    • زائر 3 | 2:50 ص

      مقال رائع

      توصيف دقيق للوضع السياسي المزري في بلدنا والذي يتعامل فيه المسئولين مع عب البحرين الواعي والمثقف وكأنه قطيع من الغنم ، ولكن التغيير آت ٍآت ٍ سواء أرادو أم لم يريدوا ذلك والمستقبل لابد وان يكون أفضل

    • زائر 2 | 2:11 ص

      أضحوكة الفزعة.

      لذلك سرعان ما انكفأت فزاعة الفزعة التي أفزعت فزعتها بالرغم من أن المفزعين كانوا ممن فزعوا من بلدانهم ليسكنوا ديارنا وخيراتنا.

    • زائر 1 | 12:34 ص

      nice

      nice artical

اقرأ ايضاً