في مثل هذا الشهر (أغسطس/ آب) من العام 1973م فقدت البلاد العربية والإسلامية واحدا من أبرز علمائها ومصلحيها ألا وهو الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، أحد أعلام الزيتونة، وقد كان له شأن كبير في إنارة الفضاءات العلمية بفضل مساهماته القيمة في تنشيط الحركة الفكرية وإثراء المكتبة العربية على امتداد قرن كامل.
ولد العلامة المفسر محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور في تونس سنة (1296)هـ، الموافق (1879)م وسط عائلة علمية عريقة أنجبت العديد من الكفاءات في أكثر من تخصص معرفي، وتوفي في تونس سنة (1394)هـ، الموافق (1973)م، عن عمر ناهز الـ(98) عاماً، وقد برز في عدد من العلوم ونبغ فيها، كعلم الشريعة واللغة والأدب.
وقد اطلع بن عاشور على أفكار الطهطاوي والأفغاني والكواكبي ومحمد عبده وغيرهم من المصلحين في الساحة العربية والإسلامية، ما رسخ إيمانه بالحاجة إلى الإصلاح خاصة وقد سبقه في بلاده دعاة إلى التغيير مثل ابن أبي الضياف وخيرالدين التونسي وغيرهما من المجددين. إلا انه وبقدر ما اشتد تعلقه برواد الإصلاح المسلمين فإن متابعته لما كان يحدث بالغرب لم تتوقف بفضل احتكاكه المتواصل بثقافته ورصده الدائم لمختلف إنجازاته وإلمامه باللغة الفرنسية ما ساعده على بناء شخصية في منتهى الاعتدال، دائمة الانفتاح، جريئة في إبداء الرأي ونصرة الحق، متجددة العطاء.
كما كانت للشيخ أيضا الكثير من المشاركات المتميزة في الموسوعة الفقهية التابعة لوزارة الشئون الإسلامية الكويتية، وأعمال مجمع اللغة العربية بالقاهرة، والمجمع العلمي بدمشق. وقد حظيت جل كتاباته في مختلف الصحف والمجلات داخل تونس وخارجها بالكثير من التقدير والإعجاب لما تتسم به من وسطية واعتدال وتحمله من نزعة إصلاحية رائدة تجمع بين الأصالة والمعاصرة.
إن ما حققه بن عاشور من إنجازات علمية رائدة مكنته من تقلد مناصب أكاديمية عدة والإحراز على درجات وجوائز علمية شتى؛ فبعد أن تصدى للتدريس بجامع الزيتونة، عين نائبا للدولة لدى الهيئة المشرفة على التعليم الزيتوني وعضوا بكل من مجلس إدارة المدرسة الصادقية ولجنة النظر في إصلاح التعليم الزيتوني والمجلس الأعلى للأوقاف، ثم عين قاضيا مالكيا. بعد فترة وجيزة من توليه القضاء منحته دائرة الإفتاء - تبعا لخبرته العلمية المتميزة ومردوده المهني الطيب - لقب شيخ الإسلام المالكي. وهو أحد المؤسسين الأوائل للجمعية الخلدونية، وأول عميد للجامعة الزيتونية إثر استقلال البلاد سنة 1956م، وقد انقطع على إثر تخليه عن هذا المنصب سنة 1960 إلى البحث والتأليف إلى حين وفاته.
لقد حاول الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في إطار مشروعه التجديدي والإصلاحي ووفق قراءته المقاصدية الواعية تحرير صحيح المنقول مما لصق به من أباطيل، والرد عما يثار بشأن الإسلام والمسلمين من شبهات من خلال عمله الدؤوب على إحكام الوصل بين النقل والعقل، وتوطيد العلاقة بين القديم والجديد، ودعوته إلى عدم التوقف عن إصلاح المؤسسة التعليمية وتوفير الدعم اللازم لها، وإعظام منزلة المرأة والتأكيد على حضورها ومشاركتها باعتبارها دعامة الأسرة، ومربية الأجيال، وناقلة القيم، إلى جانب رفضه الدائم لكل أشكال الغلو ومظاهر التعصب لأن «الحجر على الرأي ـ والكلام له ـ يكون منذرا بسوء مصير الأمة ودليلا على أنها قد أوجست في نفسها خيفةً من خلاف المخالفين وجدل المجادلين».
والنظام الاجتماعي في الإسلام كما بلور ملامحه الشيخ بن عاشور يلتقي مع ما انتهت إليه مسيرة العقل البشري في مختلف الحقب التاريخية؛ ففي كتابه (أصول النظام الاجتماعي في الإسلام) ركز على خصوصيات النظام الاجتماعي التي منها السماحة والتوازن والرحمة في تأصيل يتكامل فيه النقل والعقل. ومن ملامح الإصلاح الاجتماعي اعتباره أن نجاح الأمة في مسيرتها الحضارية مرهون بالإحساس بالمسئولية الشاملة بين الحاكم والمحكوم، وأن سياسة الأمة لابد أن تدور حول محور أساسي وهو الإصلاح، وهذا ما جعل بن عاشور يقوم بالدعوة لتأسيس علم المقاصد كعلم مستقل عن علم أصول الفقه؛ ليكون لبا للفكر التجديدي الحضاري في تطوير المعرفة الإسلامية، والاستئناف الحضاري الذي من تجلياته الدعوة لإصلاح الأمة وإصلاح التعليم كما تجلى في كتابه (أليس الصبح بقريب) حيث أبان عن ملامح برنامج لإصلاح التعليم الديني في الزيتونة حيث وجه بن عاشور نقدا لاذعا لطريقة التعليم وما أحاط بها من خلل، لما لاقاه من جوانب قصور تشمل العملية التعليمية بشكل عام، والشرعية بشكل خاص.
ونختم بتفسيره، المشهور اختصاراً بـ «التحرير والتنوير» فقد أمضى في تفسيره قرابة الأربعين عاماً، وقد اشتمل على كثير من الفوائد واللطائف والتحريرات، مع الحرص على تلمس الحكم من الأحكام والتشريعات ونكتفي بقوله من المقدمة «فيه أحسن مما في التفاسير، وسميته: تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد، واختصرت هذا الاسم باسم: التحرير والتنوير من التفسير».
«وللأستاذ فصاحة منطق، وبراعة بيان، ويضيف إلى غزارة العلم وقوة النظر: صفاء الذوق، وسعة الاطلاع في آداب اللغة... كنت أرى فيه لساناً لهجته الصدق... وهمةً طماحة إلى المعالي، وجداً في العمل لا يمسه كلل، ومحافظة على واجبات الدين وآدابه... وبالإجمال ليس إعجابي بوضاءة أخلاقه وسماحة آدابه بأقل من إعجابي بعبقريته في العلم»، ذلك ما قاله فيه صديقه الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر رحمه الله.
بعد أربعين عاما من وفاته لايزال حضور الشيخ بن عاشور في المحافل العلمية والمراكز البحثية والكليات والمعاهد الجامعية متميزا من خلال ندوات وملتقيات عقدت في الجزائر والمغرب وليبيا ومصر وفي ماليزيا وفرنسا وانجلترا والولايات المتحدة، كما أعدت في السنوات الماضية أطروحات جامعية للماجستير والدكتوراه في جامعات تونسية وجزائرية ومغربية وأردنية وسعودية ومصرية وماليزية وغيرها. ولعله من حق الشيخ بن عاشور على الأمة الإسلامية وخاصة بلاده تونس أن تحدث مؤسسة علمية تحمل اسمه وتنشر علمه وتفيد الناس بتحريره وتنويره وهو مقترح قديم جديد نرجو أن يرى النور قريبا.
إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"العدد 3993 - الإثنين 12 أغسطس 2013م الموافق 05 شوال 1434هـ
شكرا
مقال تعريفي جميل بهذا المصلح الجليل
نرجو أن نجد مثل ابن عاشور في وقتنا هذا
مقترح لطيف يليق بمكانة الشيخ الجليل
ولعله من حق الشيخ بن عاشور على الأمة الإسلامية وخاصة بلاده تونس أن تحدث مؤسسة علمية تحمل اسمه وتنشر علمه وتفيد الناس بتحريره وتنويره وهو مقترح قديم جديد نرجو أن يرى النور قريبا.