خسارات البشر اليوم في افتقادهم أنفسهم وأرواحهم وضمائرهم وقيمهم، والعنوان العريض لكل ذلك: قيمتهم. حين تشعر أنك من دون قيمة، ومن دون معنى، ومن دون هدف، ويشكّل خياراتك وما تريده الآخرون، فأنت لا أحد. أنت لا شيء بعبارة أصحّ!
في الحديث عن الخسارات، يتبادر إلى الذهن الخسارة الشخصية التي يمرّ بها أيُّ واحدٍ منا. خسارة تمسُّ ما تعلَّق وارتبط وتوحَّد به واعتاده، وفي ذلك تفاصيل يستدعيها أيُّ واحد منا. ثمَّة من ينتصرون ويتجاوزون تلك الخسارات بقوَّة وصلابة وقدرة حتى على التهكُم فيما يستدعي التهكُّم، وثمَّة من لا يقوى فيدخل في انهياره؛ إما بشكل مؤقت؛ أو يمتد به أثر تلك الخسارة إلى زمن طويل؛ فيما بعضهم لا يقوى - تبعاً لموضوع الخسارة - على إكمال مشواره في الحياة، فيأتيه أجله كنوع من الخلاص أيضاً، ورحمةً ولطفاً به، وبالذين من حوله في الوقت نفسه.
في الحيِّز الشخصي، لا خسارة في الدنيا لا يمكن تجاوزها مهما عظمت وكبُرت وكانت في اللب والمحور من حياة الإنسان وتفاصيله.
بطبيعة الإنسان، قدرته على امتصاص الصدمات والتحايل والقفز عليها؛ أو حتى التواؤم والتعايش معها. مثل تلك الصدمات تخلق منه طاقة وإرادة أخرى، وإنساناً آخر في نهاية المطاف. البشر ليسوا سواء في هذا الأمر. يتفاوتون ويتمايزون؛ تبعاً للبيئات التي وجدوا فيها والظروف التي نشأوا عليها، والأهم من كل ذلك، المسار التربوي والحياتي في سنيّ حيواتهم الأولى. كل ذلك يشكّل مصدَّات وموانع وحواجز تحول دون أن يتهشّم الإنسان بتعرّضه إلى خسارةٍ أو فاجعةٍ أو كارثةٍ هنا أو هناك.
تلك المصدَّات والموانع والحواجز تترك أثرها في السياق العام، حين يكون الإنسان حركياً وفاعلاً، وعلى تماسٍّ مع قضايا مجتمعه، ضمن دائرة صغرى يتواصل عبرها مع الدوائر الكبرى. يترك كل ذلك أثره في طبيعة رؤيته وتعاطيه وتفاعله ودوره في الظروف المفصلية التي يمر بها مجتمعه، على اختلاف حضوره ووجوده في الدوائر تلك، صغرتْ أم كبرتْ.
الخسارات الحقّة التي بحدوثها تسري الخسارات على محيطك الخاص والعام. خسارة قيم، وخسارة ضمير، وخسارة انفصال عمّا يضج ويحدث في ذلك المحيط من تجاوزات وانتهاكات واستعباد وابتزاز.
مثل ذلك الانفصال يضعك في لبّ الخسارة. يضعك في دائرة العدم. كأنك لم تكن هنا. لا شيء يدل عليك.
***
يتوهّمون أنهم بمنأى عن كل ذلك، أولئك الذين اتخذوا خيار الصمت والتفرّج عن بعد على كل ما يحدث في محيطهم. يتوهمون أن يداً لن تمتدّ إليهم؛ طالما ظلوا بعيداً من استفزاز وغضب وتأليب من بيده/ يدهم أدوات وأساليب البطش والقوَّة والتنكيل.
من قال، إن بالصمت وحده تنجو في بيئات مثل تلك؟ بعد زمن لن يُكتفى بصمتك كي تنجو من أدوات بطش من بيده البطش والمسيّر والمُخلّق له. يريد لذلك الصمت أن يُجيّر ضمن ما يراه أحياناً، ولن تكون وقاحة حين يُطلب منكَ أن تخرج من صمتك وتدخل ضمن الجوْقة؛ ولو تسفيهاً وتشويشاً؛ وحتى تحريضاً حتى على أهلك وناسك، وأقرب المقرّبين لك، والذين من المفترض أن تكون في اللبّ من الانتماء لهم.
***
خسارات البشر اليوم في افتقادهم أنفسهم وأرواحهم وضمائرهم وقيمهم، والعنوان العريض لكل ذلك: قيمتهم. حين تشعر أنك من دون قيمة، ومن دون معنى، ومن دون هدف، ويشكّل خياراتك وما تريده الآخرون، فأنت لا أحد. أنت لا شيء بعبارة أصحّ!
تتحوّل إلى أداة؛ وليس بالضرورة أداة فعل خلاق؛ بل أداة هدم وتشويه وفساد وإفساد في أيدي الذين يمارسون كل ذلك. في أيدي المشوِّهين لصورة الحياة، والمتبنّين لفعل الفساد والإفساد.
تتحول إلى شيء في تصنيفه السالب الهادم المنغّص المهدّد للإنسان بما هو إنسان كامل الأهلية بالقيمة التي لا يمكن أن يكون هو بعيداً منها.
***
كأنَّ العالم من حولنا اليوم، بالذهنية والعقلية والمزاج الشاذ الذي يحكمه ويسيّره، يراكم خساراته. شعوب وأمم تراكم إنجازاتها وفعلها الخلاق، وشعوب وأمم أخرى تراكم الخسارات بشهوة بالغة. كأنها تحقق انتصاراً لا يفهمه ولا يراه سواها بكل تلك الخسارات.
في الحيّز البسيط، تعاين حالاً من الريبة والقلق والشرود، مبعثه أن في الطريق من سيشي بأحوالهم. أحوالهم التي ارتضوها دالّة على أنهم هنا. أنهم بشر وليسوا أشياء؛ فيما الذين يقبضون الثمن كي يتحوّلوا إلى أشياء يمعنون في تغذية تلك الممارسة؛ ممارسة الهدم والتشويه والفساد والإفساد، وخنق خيارات الناس في أن يكونوا بشراً بكل ما يحمله ذلك المفهوم من عمق معنى.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3992 - الأحد 11 أغسطس 2013م الموافق 04 شوال 1434هـ
شكرا لك استاذ جعفر
ما شاء الله عليك استاذنا الفاضل الله يحفظك و تسلم يمينك و انا من المتابعين لتغريدات الاستاذ على التوتير و يعجبني ما حباه الله من موهبة البلاغة اللغوية كلاااامك دررر دمت سالما
مثل في بلادنا لا اعتقده
عيش جبان تبقى او تعيش لأمك زمان.....الكاتب يقول لك حتى لو مشيت جنب الحيط او الظل سيطالك الراش .....اذا ما طالك الراش فأنت خاش باش