العدد 3990 - الجمعة 09 أغسطس 2013م الموافق 02 شوال 1434هـ

ساعات المساء في إيرلندا الشمالية: بالفنون يهزمون الذاكرة المثخنة

معرض أوسكار منوز
معرض أوسكار منوز

لم تتعدَّ زيارتنا لإيرلندا الشمالية اليومين. إلا أن جدولنا كان مزدحماً بالأنشطة، إذ يمتد من الصباح الباكر لغاية ساعات المساء. الساعة تشير إلى السابعة والنصف عندما دعتني مرشدتنا إلى الخروج وحضور مسرحية. تبدو مدينة «بلفاست» في ساعات المساء كما لو كانت مدينة للموتى. ليس ثمة شيء يدل على وجود حياة. الظلام حالك، وصمت مطبق أشبه بمقبرة. عبرت عن مفاجأتي لمرشدتنا، مستنكرة بفضول: «تمتلكون الحرية الكاملة غير أنكم لا تستخدمونها»!

صمتت قليلاً قبل أن تجيبني «الهاجس الأمني لايزال مسيطراً هنا، معظم المحلات تغلق في السادسة مساء». قبل أن تعود وتستدرك «بعض النوادي الليلية تفتح لأوقات متأخرة، لكن رغم ذلك فإن الخروج في هذا الوقت لا يخلو من مخاطرة». ومضت مسترسلة في شرح الأوضاع، قائلة «حالات العنف غالباً ما تحدث في هذا الوقت».

تقوم المسرحيّة التي كانت تحمل اسم «تحرير» (RELEASE) على نوع من المسرح اسمه مسرح الشهود. ليس ثمة ممثلون محكومون بنص منجز سلفاً ولا سيناريو مفتعل. إن الأشخاص الجالسين على الخشبة كانوا شهوداً حقيقيين على فترة الأزمات في إيرلندا الشمالية. عاصروا الحروب في خلال حياتهم بين طائفتي البروتستانت والكاثوليك. وكان من بينهم الضحايا، لكن أيضاً، كان من بينهم الجناة! وهذا كان عنصر المفاجأة بالنسبة لي. إنها المرة الأولى التي أشاهد فيها هذا النوع من العروض: القاتل والقتيل في المسرحية!

إن جميع الممثلين يشتركون مع المخرج في توليف هارموني يقوم على الحكاية، حكاية قصصهم خلال فترة الأزمات، قصصهم الحقيقية. اقتصر عمل المخرج على اختيار شهود للمسرحية من بين نحو 30 شاهداً. وكذلك استثمار بعض التقنيات الإخراجية البسيطة لتوظيب ظهورها على المسرح. لكن المسرحية برمتها تقوم على عنصر الإفصاح والتحدث عما لقيه كل منهم أو اقترفه في خلال فترة الحروب الطائفية.

إن عملية الإفصاح تمثل بحد ذاتها واحدة من مراحل الشفاء التي يجب أن يمر بها أي شاهد على انتهاك لحقوق الإنسان. هذه واحدة من الرسائل التي أرادت المخرجة إيصالها. معظم الحضور كانوا متأثرين. ولم يكن عسيراً مشاهدة بعضهم يغالب دموعه من شدة التأثر. كان الواقع بشخوصه الحقيقيين يعيد الارتسام أمامهم ضمن عملية شاملة للتذكر. وقد كانت الذاكرة شديدة المرارة.

حارس السجن ضحية أيضاً

المخرجة «تيا سيبنك» هي من ابتكر هذا النوع من المسرح. وقد أخرجت أعمالاً مسرحية مختلفة ضمن مسرح الشهود قامت بعرضها في الولايات المتحدة وبولاندا وإيرلندا الشمالية. عندما تواصلت معها عبر البريد الإلكتروني للنقاش حول بعض جوانب المسرحية عبرت عن سعادتها الشديدة لاهتمامي بهذا النوع من المسرح.

تدور أحداث المسرحية حول 7 شخصيات من أطراف مختلفة: اثنان من المعتقلين، جنديان، رجل مباحث، حارس سجن وضحية تعرّض لحادث تفجير سيارة في أثناء طفولته أودى بحياة أمه وأبيه أمام مرأى عينيه. كل واحد من الشهود كان يروي مأساته وكيف تحرر من سطوة فترة الأزمات. كان مشهداً يقوم على التناقضات. لم أعتقد يوماً بأنني قد أتعاطف مع حارس سجن أكثر من تعاطفي مع معتقل سياسي.

حين رحنا نناقش المسرحية بعد انتهائها، وجدت أن من معي يوافقونني في هذه المسألة. فالحارس الذي كان على أعتاب الستين من عمره يخبرنا عن صراعه من أجل الحفاظ على عمله والحرص على سلامة أوضاع المعتقلين. في الوقت ذاته الذي كان يتلقى فيه تهديدات مستمرة بالقتل من الجهات المعارضة. قذف القنابل الحارقة في منزله استمر بشكل متواصل فاضطر للانتقال هو وعائلته من منزل إلى آخر.

لم تعد زوجته وعائلته قادرة على تحمل التهديدات والهجمات المستمرة فتركته. وأخيراً اضطر هو الآخر لترك عمله للسبب نفسه. فقد كل شيء وقام بأكثر من محاولة للانتحار. في كل مرة ينجو، كان يحال إلى العلاج النفسي والعقلي.

إن قصته جعلتني أتساءل حول صحة اعتقادنا خلال الفترات العصيبة، بأن طرفاً يعيش مأساة والطرف الآخر يرفل في جنات النعيم! يثبت هذا الحارس دراما مأسويّة تتقاطع داخلها ذوات كثيرة، حتى نظن أنهم خارج حدودها.

الفن في مواجهة التشدد

موّل الاتحاد الأوروبي برامج للمصالحة في إيرلندا الشمالية تحاكي هذا النوع من الأعمال. وبلغت قيمة المعونات التي تسلمتها منظمات فنية وثقافية لغاية العام 2003 نحو 275 مليون يورو. كان ينظر إلى أي نشاط فني يُؤدّى بواسطة منتمين للجماعات الإثنية المشكلة للنسيج الإيرلندي على أنه هزيمة للأطراف المتشددة. ومساهمة في نشر ثقافة السلام، الوحدة الوطنية، وتخطي الأزمة.

ضمن هذا السياق، فقد زرنا أيضاً معرضاً للصور في مكتبة «لينين هول» حمل اسم «صور متأزّمة». وكان يحوي 70 ملصقاً سياسياً استخدمت في سياق صراع «البروباجندا» بين الأطراف المختلفة خلال الفترة من 1966 إلى 2001. كما زرنا معرضاً فنياً آخر (Everyday objects transformed by the conflict ) خصص لعرض الأدوات اليومية التي كانت تستخدم بطريقة وأخرى في الصراع اليومي الدامي خلال فترة الأزمات: الأغطية الحديدية لحاويات القمامة التي كانت تستخدم للحماية من الطلقات من واسطة المتظاهرين القوميين. ورق «التواليت» الذي كان يستخدم كأداة للمراسلة بين المعتقلين. زجاجات الحليب التي كانت تسخدم لصنع قنابل المولوتوف، وما إلى غير ذلك.

واختار الفنان الكمبودي الشهير «أوسكار منوز» أن يقيم معرضاً غنياً بالمعاني على منطقة حدودية تتناثر على جانبيها أحياء الكاثوليك والبروتستانت. كان ثمة بابان للمعرض، أحدهما يطل على أحياء الكاثوليك والآخر على البروتستانت. يدخله الزائر ليفاجأ بتركيب فني عبارة عن أرضية طبعت عليها خريطة شمالي «بلفاست» ببيوتاتها وأبنيتها التي حرص الفنان على تغطيتها بسطح زجاجي. إن جلّ ما فعله، هو نقل بعض المراكز المعروفة من منطقة الكاثوليك إلى منطقة البروتستانت والعكس. وبذلك يمكن لسكان المنطقة أن يلقوا نظرة على المنطقة التي يعيشون فيها وتعيش فيها الجماعات الأخرى خارج جدار العزل الطائفي.

مؤسسات ثقافية للمصالحة

اشتملت جولتنا أيضاً على زيارة مؤسسة ثقافية يطلق عليها (سبيكترم سنتر) تعنى بتقديم مشاريع فنية تهدف لاستقطاب أفراد من المجتمع ليس لهم اهتمام كبير في الفن، وإتاحة الفرصة لهم للعمل معاً على أعمال مشتركة فنية وأدبية. وتقول المسئولة (ديدري كارتمل) إن «المؤسسة أشرفت على تنظيم العديد من البرامج في هذا الإطار مثل مهرجان أفلام للأطفال والشباب نظم بطريقة مشابهة لمهرجان كان الدولي. وكذلك إصدار سلسلة من القصص القصيرة للأطفال التي تلامس موضوعات الهوية والتعامل مع الأزمة والأمل». وتحدثت عن ردود فعل وصلت المؤسسة من الآباء والأمهات. قالت «إنهم لاحظوا حجم التغيير الإيجابي الذي طرأ على أبنائهم من خلال المشاركة في هذا النوع من المشاريع المشتركة».

لكن رغم ذلك، يستشعر الزائر بوضوح أن حساسية الوضع السياسي والطائفي مازالت قائمة. أثناء تجوالنا في معرض «صور مؤزمة» كان يرافقنا مسئول المكتبة حيث يشرح لنا الصور وخلفياتها بصوت يحرص على إبقائه هامساً. كذلك كان يفعل المرافقون الآخرون الذين يتناوبون في الشرح إلى الزوار الأجانب. مع الحرص على إبقاء مسافة كافية بينه والآخر حتى لا يتناهى حديثه له. بوسعك أن تستشعر علامات الحذر حتى في أوساط النخبة والناشطين.

وتتساءل الباحثة، سارة ألدرد، في رسالة الدكتوراه التي خصصتها لدراسة المبادرات الفنية التي أقيمت بهدف تحقيق المصالحة (‘Community arts as a tool for reconciliation in Northern Ireland.’) عن «ما إذا كان هذا يعني أن مئات الملايين التي صرفت على البرامج الفنية المخصصة للمصالحة قد ضاعت سدى». وتشير بهذا الصدد إلى إجابة واحدة ممن استجوبتهن «إن كل ما على الفرد أن يقوم به هو تسيير العملية، يجب على الناس أن يرغبوا بالعلاج والمضي قدماً والمصالحة، وكل ما علينا فعله في الوقت الحالي هو أن نقف على الجانب وننتظر، ونكون مستعدين لمساعدة الناس عندما يُطلب منا ذلك».

بدوره، يشير الصحافي ديفيد مكتريك الذي غطى معظم فترة الأزمات إلى أن «غالبية الناس لا يرغبون ببناء جمعيات صداقة بين الكاثوليك والبروتستانت». ويوضح «إنهم يريدون فقط أن يتوقف إطلاق النار، وربما ستأتي المصالحة في وقتها طالما استتب الأمن والسلام» على حد تعبيره. لكن إلى أن يحين هذا الوقت، قد يكون من المفيد - أو هكذا يرى الفنانون وأصحاب الرؤى الحالمة - أن تترك الناس يفصحون عن ذواتهم أو يتحدثون. وهذا ما تحاول المخرجة تيا سيبنك أن تفعله في مسرحية «تحرير». تحريرهم من ذاكرتهم المثخنة!

العدد 3990 - الجمعة 09 أغسطس 2013م الموافق 02 شوال 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً